زيارات البابا تواضروس الثاني لأوروبا: ماذا اضافت للكنيسة والوطن؟
بقلم – صموئيل العشاي:
خلال الأيام الماضية أجرت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية جولة رعوية واسعة في وسط أوروبا، شملت بولندا ورومانيا وصربيا وجمهورية التشيك. وفي إطار هذه الزيارات التي استمرت نحو أسبوعين، التقى البابا تواضروس الثاني برؤساء دول ورؤساء حكومات ورجال دين كبار في هذه الدول، إلى جانب لقاءات روحية مع أبناء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والجاليات المسيحية الأخرى.
وتناولت التقارير الصحفية الرسمية رسالة الزيارة بأنها «رحلة رعوية» ضمن خطة البابا للعام 2025، إلا أن مضمونه لم يقتصر على لقاء الأحبة في المهجر. فلقد حملت كلمات قداسة البابا ورسائله بُعدًا تعريفيًا بإرث الكنيسة القبطية وتاريخها الطويل، إضافةً إلى أبعاد دبلوماسية تهدف إلى تعزيز العلاقات بين مصر وهذه الدول، وتوضيح صورة المجتمع المصري والتعايش الديني فيه .
الأهداف المعلنة للجولة الرعوية
قال المتحدث باسم الكنيسة، القمص موسى إبراهيم، ان زيارة البابا إلى بولندا ومابعدها جاءت «ضمن أجندة الزيارات الرعوية لقداسته لعام 2025» وهي مجدولة مسبقًا منذ عدة أشهر .
الهدف المعلن يتمثّل أساسًا في تقديم الرعاية الروحية لرعايا الكنيسة القبطية في المهجر، وإقامة القداسات ، وعبّر البابا في محاضرته بجامعة أوروبا ببولندا . وشملت الزيارة لقاءات روحية، وقداسات وعروض كورال كما في بوخارست ، بالإضافة إلى حضور فعاليات إيبارشية أوروبا المشتركة التي شارك فيها أساقفة الكنيسة المصرية .
إلى جانب الجانب الروحي، حرصت الكنيسة على تنظيم لقاءات رسمية مع كبار المسؤولين في كل بلد، وهذه ميزة أساسية لزيارات البابا، إذ قُدّمت كـ«لقاءات رسمية مع مسؤولين رفيعي المستوى» ضمن الزيارة . فعلى سبيل المثال، التقي البابا الرئيس البولندي أندريه دودا في القصر الرئاسي بوارسو ، والتقى رئيس الوزراء الروماني، كذلك رئيس وزراء صربيا ووزراء خارجيتها وثقافتها ، والتقى وزير الخارجية التشيكي في براغ . هذه اللقاءات الرسمية أُقيمت بحضور السفراء المصريين وأعضاء الوفد الكنسي، ورافقها تغطية إعلامية واسعة، مؤكدةً أن هذه الزيارة لم تكن مجرد تجمع رعوي داخلي بل جولة دبلوماسية لتعزيز العلاقة بين مصر وهذه الدول على صعيدي الدولة والكنيسة .
تعريف أوروبا بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية
غير الأهداف المعلنة تكمن مقاصد استراتيجية ودبلوماسية. أولاً، ساهمت هذه الزيارة في تعريف الأوساط الأوروبية بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية وتاريخها العظيم. فقد كرّر البابا في كلماته أمام الرئيس البولندي مثلاً كيف أن مصر هي «الأرض التي احتضنت العائلة المقدسة» عند فرارها من هيرودس ، مشيراً إلى أن الأقباط في مصر ليسوا أقلية تُنظر إليها بعين تهميش، بل «أبناء للأرض المصرية» . كما استعرض أمام وزير الخارجية التشيكي نموّ الكنيسة القبطية في المهجر بوجود «أكثر من ٥٠٠ كنيسة ودير خارج مصر» وتجمعات ناشئة في بولندا والمجر ورومانيا وصربيا والتشيك يرعاها نيافة الأنبا جيوڤاني .
ودعا البابا مسؤولين أوروبيين إلى زيارة مصر والتعرف بأنفسهم على الحضارة الفرعونية والتراث القبطي الغني ، مما يعزز الصورة الإيجابية لمصر كمجمع متعدد الأديان.
ثانيًا، من الممكن النظر لهذه الرحلة كجسر حضاري بين أوروبا والشرق. وايضًا بولندا ورومانيا وصربيا دول ذات أغلبية مسيحية (كاثوليكية وأرثوذكسية) تتميز بتاريخ طويل من الانتماء للكنيسة ، وتحرص حكوماتها على الحوار بين الأديان. وصف وزير الخارجية الصربي هذه الزيارة بأنها «زيارة تاريخية تسهم في تعزيز العلاقات ليس فقط بين الدولتين، بل أيضًا بين الكنيستين» . كما أن هناك خلفية دبلوماسية: فقد التقى الرئيس السيسي في السابق قادة هذه الدول بدورهم، مما يمهد للقاءات ثنائية أكثر عمقًا. وتمثل البلدان الأربع تُشكل عصب «إيبارشية وسط أوروبا» القبطية، حيث يتواجد عدد متزايد من الأقباط الذين هاجروا إلى أوروبا في السنوات الأخيرة بحثًا عن فرص عمل ودراسة ، وحان الوقت لتعزيز خدمتهم وتشجيعهم كي لا تندثر روابطهم مع الكنيسة الأم .
اللقاءات الرسمية والكنسية والمحطات الرئيسية
بولندا: استهلها البابا بلقاء رعوي مع الجالية القبطية والإثيوبية أقيم فيه قداس أحد توما في كنيسة مار يوحنا المعمدان ووِلوباتير مرقوريوس بوارسو . ثم ألقيت له محاضرة في «كلية أوروبا» بناتولين تحت عنوان «في العالم لا من العالم» ، حضرها طلاب وأكاديميون، أكّد فيها دعوته للحوار وبناء جسور السلام. أما الجانب الرسمي، فشمل استقبالًا في القصر الرئاسي من الرئيس دودا الذي أشاد بتاريخ الكنيسة القبطية وتجربة تعايش الأقباط في مصر، وحضره مسؤولون دبلوماسيون كبار. كما زار البابا أسقف كنيسة الروم الكاثوليك بوارسو وأقام السفارة المصرية مأدبة على شرفه .
رومانيا: وصل البابا تواضروس إلى بوخارست واستُقبل في المطار من قِبل السفير المصري ومطران الأرمن الأرثوذكس، ثم زار مقر بطريركية الكنيسة الأرثوذكسية الرومانية حيث كان في استقباله البابا غبطة البطريرك دانيال . وفي إحدى أبرز محطات الزيارة، دشن قداسته «مجمع خدمات كنيسة مارمينا» الجديد في بوخارست ، ليصبح بذلك أول كنيسة قبطية كاملة تُفتتح في رومانيا. وسيقدم خدمات روحية مثل مدارس الأحد وخدمة «إخوة الرب» ، في خطوة لتقوية حضور الكنيسة القبطية وسط المجتمع الروماني. واستقبل البابا من قبل السلطات السياسية، حيث التقى رئيس الوزراء الروماني ووزيري الأديان والثقافة، إضافةً إلى لقائه أبناء الكنيسة القبطية هناك واستعراض أوضاعهم .
صربيا: كانت المحطة الثالثة بلجراد واستُقبل البابا رسمياً من قِبل رئيس الوزراء الصربي وألقى قداسته تصريحًا صحفيًا أمام الإعلام الصربي . عقد لقاءً مهمًا مع رئيس الوزراء أناكسا برنابيتش الذي وصف الزيارة بـ«الخطوة المهمة نحو تعزيز العلاقات بين الشعبين المصري والصربي» ، وأعلن أن أول زيارة رسمية له خارج البلاد ستكون إلى مصر، في مؤشر إلى عمق التلاحم بين البلدين . كما التقى البابا وزير الخارجية ماركو دجوريتش في مقر الوزارة، الذي أكد بدوره أن الزيارة تاريخية و«أنتم في بلدكم، فنحن لسنا بلدًا غريبًا عليكم» . من الجانب الكنسي، زار البابا الكنيسة الأرثوذكسية الصربية «السيدة العذراء» بحي زيمون، واجتمع بكبار رجال الدين فيها، أبرزهم قداسة البطريرك بورفيريوس . أما الروحيًا فقد ألقى محاضرة في القصر الرئاسي بحضور مسؤولين، مشددًا على دور مصر في بناء السلام وحكمتها السياسية .
التشيك: اختتم البابا جولته بزيارة قصيرة في التشيك، حيث ألقى قداسًا أبلاً للتجمع القبطي في براغ، ثم التقى وزير الخارجية يان ليبافسكي . خلال اللقاء، رحب ليبافسكي بالزيارة ورأى فيها فرصة للحوار الثقافي «تعزيز العلاقات الدولية» ، فيما أكد البابا أهمية الوجود القبطي في أوروبا، مُشيرًا إلى تمازج المصريين واحتضانهم للأقباط كـ«أبناء للأرض المصرية» وقدسية مصر لدى المسيحيين . كما التقى البابا رئيس أساقفة براغ الكاثوليكي يان جروبنر، حيث تطرقا إلى تحديات الحفاظ على الإيمان في مجتمع حديث . وعلى مدار الزيارة، أقامت السفارات المصرية في هذه الدول احتفالات رسمية على شرفه ، تعبيرًا عن الترحيب الدبلوماسي بها.
الترحيب الأوربي للبابا
لاقى استقبال البابا تواضروس في أوروبا ترحيبًا إعلاميًا ورسميًا كبيرًا. تناولته وسائل الإعلام المصرية والأجنبية بإيجابية، معتبرين زيارته «تاريخية» لتعزيز روابط العلاقات بين الكنائس والدول . فنقلته الصحافة الرسمية على أنه يَحمل رسائل محبة وسلام. ففي بولندا شكر الرئيس دودا الكنيسة القبطية على أصولها العريقة ودعم مصر التاريخي للمسيحية، معبّرًا عن «اعتزازه» بزيارة البابا واصفًا اللقاء بـ«لقاء رد المحبة» . وفي رومانيا، أثنى غبطة البطريرك دانيال على مبادرة إنشاء أول كنيسة قبطية فيها، باعتبارها نقطة انطلاق جديدة للتعاون الكنسي . أما في صربيا فقد جاءت ردود الأفعال أكثر تفاعلاً؛ حيث اعتبر وزير الخارجية أن هذه الزيارة تقوي العلاقات «بين الدولة والكنيسة معًا» ، وأشاد بالصلة الروحية بين البلدين لا سيما بعد تأكيد البابا على قيمة مصر في تاريخ المسيحية . من جانبه، خصّص الإعلام الصربي تغطية خاصة للقاء البابا برئيس الوزراء وإبرازه لتقارب الرؤى بين مصر وصربيا حول الحوار بين الأديان والتعاون في المجالات الثقافية . ولم تخف ردود الفعل العامة إعجابها برسالة البابا التعددية، إذ عبّرت بعض الصحف عن تقديرها لدعوته إلى «التعايش والإخاء» بين المسلمين والمسيحيين في مصر ، مما عزّز صورة مصر كبلد يحتضن التنوع الديني.
أثر الزيارات على وضع الكنيسة المصرية في أوروبا
أسهمت هذه الجولة في تعزيز حضور الكنيسة القبطية على المستويين الإقليمي والدولي. فبتدشين كنائس جديدة (كما في بوخارست) ولقاء المسؤولين، تثبت الكنيسة مكانتها ككيان مُعتبر يملك تاريخًا ضاربًا في التاريخ، وليست مجرد طائفة صغيرة. وقد يكون لهذه الزيارات أثر إيجابي على الجاليات القبطية هناك، إذ شعرت أن «صوتها» يُسمع ويُقدَّر دوليًا. كما أن الترويج لدور مصر في الحاضر وعمقها التاريخي (من خلال الإشارة إلى بناء أكبر كاتدرائية وجامع معًا واحتضان العائلة المقدسة ) يدعم الموقف الرعوي والوطني للكنيسة المصرية في الخارج.
من الناحية الدبلوماسية، عزّزت الزيارة العلاقات بين مصر وهذه الدول عبر جسور الكنيسة: فقد أعادت تأكيد آلية التعاون بين الدولة والكنيسة كما عبر عنها الوزير الصربي ، كما استُغلت هذه اللقاءات لتبادل الدعوات الرسمية وزيارات المتابعة. بوجه عام، من المتوقع أن تزيد هذه الجولة من تأثير الكنيسة المصرية في أوروبا الوسطى، فتفتح الباب أمام دعم أوسع من الحكومات الأوروبية للوجود القبطي، وربما تمكينه من المزيد من الحريات لبناء مؤسساته وخدمته للمجتمع المحلي.
جولات البابا أظهرت دوره الدلوماسي الكبير
جولات البابا تواضروس الثاني الأخيرة في وسط أوروبا أظهرت مدى تلازم البعد الروحي بالبعد الثقافي والدبلوماسي في نشاط الكنيسة القبطية. لقد نجحت في تعزيز العلاقات بين مصر وهذه البلدان على مستوى الدولة والكنيسة معًا، ونشرت صورة إيجابية عن مصر وقيمها، كما شجّعت أبناء المهجر علي الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة. ومن النتائج المحتملة لهذه الجولات: توسيع قاعدة الدعم الأوروبي للوجود القبط، وتشجيع بناء كنائس ومؤسسات قبطية جديدة في أوروبا. كما قد يؤدي هذا الانفتاح إلى مزيد من التفاهم والحوار بين الكنائس، ويبني جسور تعاون في المجالات الإنسانية والثقافية.
وينبغي أن تحافظ الكنيسة على زخم هذه المبادرة عبر استمرار زيارات مماثلة ودورية إلى أوروبا وخارجها، والاستفادة من الإعلام ووسائل التواصل لنشر رسائلها في العالم. كما يمكن للحكومة المصرية أن تدعم هذا التوجه من خلال تسهيل برامج ثقافية وسياحية للأوروبيين للتعرّف على التراث القبطي في مصر.
عالم اليوم بحاجة إلى تكامل الشرق والغرب ، وان التضامن بين الحضارات يحقق إنسانية أكثر انتشارًا، وأن الأديان يمكن أن تكون جسرًا للسلم العالمي. في النهاية، تؤكد هذه الزيارات أن الكنيسة القبطية لا تكتفي بالإيصال الروحي للرعية فحسب، بل تُمثّل أيضًا ضمير مصر التاريخي بين الأمم، وهي رسالةٍ يُترجَم أثرها في المستقبل