من التجنيد إلى التمكين: هل نجحت جماعة الإخوان في اختراق الدولة الأمريكية؟

بقلم صموئيل العشاي:

في صباح الأحد، الأول من يونيو 2025، مسيرة في شارع “أسبن” بمدينة بولدر بولاية كولوراد، حين هاجم محمد صبري سليمان الحدث بإلقاء زجاجات مولوتوف على المشاركين فيه.

لكنّ الصدمه لم تكن في المشهد، بل في هوية الجاني: محمد صبري، رجل في الثامنة والأربعين من عمره، دخل الولايات المتحدة لأول مرة بتأشيرة سياحية B1/B2 في 27 أغسطس 2022، وظلّ على أراضيها بعد انتهاء صلاحية التأشيرة في 26 فبراير 2023، ليصبح مقيماً بصورة غير قانونية. وتشير سجلات الهجرة إلى أنه حاول مرارًا دخول البلاد، رُفض طلبه عام 2005، لكنه نجح في 2022، ثم حصل على تصريح عمل امتد لعامين وانتهى في مارس 2025.

غير أن ما أثار الجدل أكثر، هو ارتباط اسمه بجماعة الاخوان ، وتداولت وسائل إعلام روايات عن العثور على شعارات مرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين وصور للرئيس الأسبق محمد مرسي في هاتفه، ما طرح نقاشًا داخل الأوساط الأميركية حول ما إذا كان الهجوم بدافع “انتقامي” شخصي، أم أنه نتيجة “تجنيد أيديولوجي” سابق.

وفي قلب هذا الغليان، يتصاعد سؤال ملحّ: كيف وصلت أموال خليجية وخطابات فكرية عبر عقود إلى تشكيل وعي أفراد يعيشون داخل الولايات المتحدة؟ وما خلفيات هذا الامتداد التاريخي؟

في هذا المقال، نحاول الاقتراب من القصة بزاوية إنسانية وتحليلية، لنكشف كيف تسللت علاقات قديمة بين الإخوان وأجهزة صنع القرار الأميركية إلى واقع يصنع ظلالاً بعيدة لأفكارٍ لا تعترف بالحدود.

هبة الغرب… تمويل خليجي في أمريكا من بوابة الدعوة

لا يبدو غريباً أن تتدفّق أموال خليجية إلى المجتمع الأميركي، لكن الواقع يُظهر أن هذه الظاهرة بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي تحت لافتة “بناء حضارة إسلامية في الغرب”. كانت السعودية والإمارات تمولان من خلال الأوقاف والجمعيات الخيرية مشاريع دينية في الولايات المتحدة، لا بهدف الإرهاب المباشر، بل لإنشاء مساجد ومدارس ومراكز تهدف إلى جذب الجاليات المسلمة نحو خطاب ديني بعيد عن العلمانية والتيارات اليسارية.

• أظهرت تقارير صادرة عن الجمعية الإسلامية لأميركا الشمالية (ISNA) أن الجمعية تلقت في أوائل الألفينات منحاً تتجاوز ربع مليون دولار من بنك التنمية الإسلامي السعودي، بالإضافة إلى دعم لبناء مدارس إسلامية تخرّج منها طلاب وُجهوا لاحقاً نحو العمل الدعوي والفكري.

• في تقرير نشرته صحيفة Dallas Morning News عام 2007، كُشف عن وثائق ضبطتها شرطة فيرجينيا وصفت ما سمّته “عملية جهاد حضاري” أو civilization-jihadist process، واعتُبر أن الهدف لم يكن تفكيك أمريكا جغرافيًا، بل ترسيخ وجود ثقافي ودعوي يصعب محوه من النسيج الأميركي.

لم يكن الحديث عن التمويل مجرد ترف إعلامي؛ فقد أُنفقت الأموال على شراء عقارات لبناء مساجد ومراكز ثقافية، وتنظيم دروس دينية تستقطب الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين، لتكون جسراً يصلهم بجذورهم الأصلية. وفي خطاب بعض قادة التنظيم ظهر مصطلح “السبع ولايات”، كمجاز يُعبّر عن مدى التغلغل المطلوب في مؤسسات الدولة، لا كمخطط تقسيم فعلي.

لقاءات سعيد رمضان: شاب إخواني في قلب البيت الأبيض – 1953

لفهم العلاقة المبكرة بين الإخوان والدوائر الأميركية، لا بد من العودة إلى صيف 1953، حين زار سعيد رمضان، صهر حسن البنا، الولايات المتحدة ممثلاً للإخوان.

• بين 8 و17 سبتمبر، شارك رمضان في مؤتمر حول الثقافة الإسلامية بجامعة برينستون، ووفّرت له وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) خدمات نقل خاصة وإقامة مريحة. ثم التقى بالرئيس دوايت أيزنهاور في 23 سبتمبر بالبيت الأبيض، في خطوة لم تكن بريئة، بل ضمن خطة أميركية لاستثمار الموقف الإسلامي المناهض للشيوعية في الحرب الباردة.

• رغم وصفه في تقارير الـCIA بأنه “فاشي يسعى للسلطة”، رأت فيه الإدارة الأميركية أداة محتملة لمنع سقوط دول ما بعد الاستعمار في قبضة الاتحاد السوفيتي، فحصل على دعم إعلامي غير مباشر وجواز سفر دبلوماسي صادر عبر الأردن.

• بدأ هذا التحالف في التراجع بحلول 1963، عندما رفضت السلطات الألمانية منحه مساحة للعمل السياسي، واكتشفت واشنطن لاحقاً أن دعوته تتعارض مع مصالحها طويلة المدى، فتوقف الدعم تدريجيًا حتى اختفى تمامًا منتصف الستينيات.

تلك القصة تلقي ضوءًا مهمًا على تقاطع السياسي بالاستخباراتي بالديني، في تربة خصبة زرعت فيها الولايات المتحدة نفوذها، ثم ندمت عليه لاحقًا.

بناء الشبكة الإخوانية في أمريكا: من السبعينيات حتى التسعينيات

اعتمد الإخوان على شبكة تنظيمية متعددة الأذرع داخل أمريكا، مستندة إلى تمويل خليجي وتراخيص قانونية أمريكية:

  1. جمعية طلاب المسلمين (MSA)
    تأسست عام 1963 بجامعة إلينوي، وتحوّلت إلى منبر مركزي لنشر الفكر الإسلامي بين الطلاب. وفي وثيقة داخلية عام 1991، حُددت أهدافها بـ:
    • توسيع القاعدة الاخوانية .
    • عرض الجماعه كبديل حضاري للمجتمع الأميركي.
    • دعم فكرة الدولة الإسلامية عالميًّا.

وظهر تاثير الإخوان الفكري والتنظيمي، وتورّط أعضائها السابقين في قضايا أمنية مرتبطة بالإرهاب.

  1. الجمعية الإسلامية لأميركا الشمالية (ISNA)

أُسست عام 1981 ككيان جامع للمراكز والمساجد، بتمويل مباشر من جمعيات سعودية وإماراتية. رغم خطابها العلني المعتدل، كشف محللون عن أصداء إخوانية تتردد في بعض فعالياتها، تدعو لبناء “قاعدة إسلامية مؤثرة” داخل المجتمع الأميركي.

  1. صندوق NAIT (North American Islamic Trust)

تأسس عام 1971 كصندوق أوقاف يُسجل العقارات الدينية، ليحميها قانونيًا من السيطرة الحكومية. وتحوّل مع الوقت إلى ذراع مالية مهمة للإخوان.

  1. معهد الفكر الإسلامي العالمي (IIIT)

نشأ في الثمانينيات، وركّز على إنتاج مناهج تربوية بالتعاون مع جامعات أميركية. ورغم غلافه الأكاديمي، وُجهت إليه انتقادات حول ارتباطه الأيديولوجي بالإخوان، وسعيه لترسيخ مفاهيم دعوية مموّهة في بيئة التعليم الأميركي.

  1. منظمتا CAIR وICNA

تأسستا في التسعينيات، وقدمتا نفسيهما كمدافعتين عن الحقوق المدنية للمسلمين، لكن تقرير وزارة العدل عام 2007 أشار إلى ارتباطات تمويلية وتنظيمية بين CAIR وبعض الجهات الإخوانية، ما أثار جدلاً واسعًا، رغم نفي المنظمة المستمر.

  1. معسكرات التدريب السرّية

في الثمانينيات، تداولت وثائق داخلية خططًا لتأسيس معسكرات تدريب في أوكلاهوما وميسوري، بهدف التحصين والتأهيل السياسي، لكنها بقيت طيّ الأوراق. ومع تصاعد الرقابة الإعلامية، طُويت هذه المشاريع قبل أن تنفذ.

استثمار العقيدة في الحرب الباردة: الدين كحليف تكتيكي

رأت واشنطن في الإسلام السياسي أداة ضغط ناعمة ضد النفوذ السوفيتي. فقد نُشر في The New York Review of Books عام 2011 أن الإدارة الأميركية استضافت رمضان وغيره، واعتبرتهم “مضادًا حيويًا للفكر اليساري” في المجتمعات الإسلامية.

• أبرز الشخصيات لاحقًا، مثل مظمل صديقي (رئيس ISNA)، دُعي إلى البيت الأبيض وكاتدرائية واشنطن ضمن برامج الحوار بين الأديان، التي كانت في حقيقتها محاولات استخباراتية لبناء جسور ناعمة.

• ومع نهاية الحرب الباردة، بدأ الخطاب الأميركي ينقلب على الحلفاء الإسلاميين، فلم تعد واشنطن مستعدة لاحتضان مشروع يهدف إلى “أسلمة” الدساتير.

عهد الملاحقات… ما بعد التسعينيات وكشف النقاب

في التسعينيات، انتقلت الولايات المتحدة من المراقبة إلى الهجوم:

• في قضية Holy Land Foundation (2004–2008)، استُخدمت مذكرة 1991 المسماة “civilization-jihadist process” كدليل على اختراق إخواني للمجتمع الأميركي، وقُدّم المتورطون للمحاكمة، مع مصادرة أصول المؤسسة لتمويلها أنشطة مرتبطة بحماس.

• تقرير استخباراتي فيرجيني (2009) كشف عن تحويلات بقيمة 12.4 مليون دولار من Holy Land وAl Haramain إلى كيانات محسوبة على حماس.

• تقرير الخارجية الأميركية (2007) أدرج جمعيات سعودية ضمن قائمة “الجهات الممولة للإرهاب”، وفرض على الرياض وقف تلك التدفقات نحو المؤسسات الإخوانية.

• نواب في الكونجرس اتهموا إدارة بوش وأوباما بـ”تبييض” صورة ISNA من خلال مشاركة مسؤولين أميركيين في مؤتمراتها، ما فجّر صدامات داخل المؤسسة السياسية الأميركية بين من يرى في الحوار ضرورة، ومن يعتبره تغطية على الخطر

الجناح السياسي: بناء تحالفات مع اليسار الأميركي واللوبيات المؤثرة

مع دخول الألفية الجديدة، غيّرت الجماعات ذات الصلة بالفكر الإخواني تكتيكاتها داخل الولايات المتحدة: فبدلاً من التركيز على الدعوة المباشرة، بدأت بتأسيس تحالفات مع جماعات الضغط الحقوقية، وتسلّلت إلى دوائر صناعة القرار من بوابة “الهوية” و”مناهضة الإسلاموفوبيا”.

• أبرز مثال على هذا النهج كان صعود منظمة CAIR، التي طوّرت خطابًا مدنيًا وحقوقيًا يتماهى مع القيم الأميركية، ما أكسبها قبولًا في أوساط الحزب الديمقراطي. ورغم اتهامات متكررة بارتباطها بأفراد مقربين من “حماس”، استمرت في لعب دور الوسيط بين المسلمين والإدارة الأميركية.

• في الانتخابات الأميركية منذ 2008، لعبت بعض هذه الشبكات دورًا خفيًا في التأثير على توجهات أصوات الجاليات المسلمة، خاصة في الولايات المتأرجحة. وتمكّن خطاب المظلومية من بناء سردية نافذة داخل الإعلام الليبرالي، وهو ما منح هذه المجموعات حصانة نسبية من الرقابة والتدقيق.

• ووفقًا لدراسة صادرة عن Hudson Institute، فقد تمكّنت شبكات الفكر الإخواني من التغلغل في 6 جامعات كبرى على الأقل من خلال برامج “الهوية والتعددية”، وموّلت مقاعد أبحاث تنشر فكرًا يعارض الأنظمة العربية التقليدية، ويبرّر “الإصلاح السياسي الإسلامي” تحت ستار أكاديمي.

ما بعد هجوم بولدر: هل هي لحظة مراجعة؟

الهجوم الذي نفّذه محمد صبري، وإن بدا فرديًا، أعاد إشعال الجدل حول العلاقة المعقدة بين الولايات المتحدة وجماعات الإسلام السياسي. فهل حان وقت المراجعة الحقيقية؟

• البعض يرى أن صبري لم يكن سوى حالة معزولة، مضطربة، لا تمثل تيارًا متماسكًا. لكنّ عودة خطاب “الجهاد الرمزي” الذي ورد في وثائق الإخوان عام 1991، يعيد طرح السؤال: هل أخطأت واشنطن حين تصالحت مع الفكر المؤدلج بحثًا عن تحالفات قصيرة الأجل؟

• مع تصاعد العمليات الفردية ذات الدوافع الدينية، بدأ نواب جمهوريون في الكونجرس يدعون إلى تحقيقات جديدة حول المؤسسات التي تربطها علاقات تاريخية بـ ISNA، CAIR، وIIIT، في محاولة لإعادة فرض رقابة على التمويل الخارجي وعلى خطاب التحريض الرمزي، حتى وإن لم يُترجم إلى عمليات إرهابية مباشرة.

• ونقلت صحيفة The Hill في تقرير لها، أن أعضاء في لجنة الأمن القومي يدرسون مشروع قانون جديد لتوسيع تعريف “التحريض الفكري” ضمن قوانين مكافحة الإرهاب، بحيث يشمل المراكز التعليمية والمراكز الإسلامية التي تتلقى تمويلًا خارجيًا من كيانات مصنفة “خطرة” في أوروبا أو العالم العربي.

دروس مستفادة من صبري

يبقى ما فعله محمد صبري لحظة كاشفة. ليس لأنه أول من نفّذ هجومًا على خلفية أيديولوجية في أميركا، بل لأنه جاء في لحظةٍ تعيد فيها الولايات المتحدة التفكير في سياستها الداخلية والخارجية تجاه الإسلام السياسي.

لقد مرّت سبعون سنة منذ أن صافح سعيد رمضان الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور، وفي تلك العقود، تحوّل الحليف المؤقت إلى عبء استراتيجي. فكلما تجاهلت واشنطن علامات الخطر، وجد هذا التيار لنفسه ممرًا جديدًا: من المسجد إلى الجامعة، ومن المنبر إلى المنحة، ومن الزكاة إلى الزجاجة الحارقة.

ولعلّ الحريق الذي اشتعل في شوارع بولدر، لا يكون فقط أثرًا لحظيًا، بل تحذيرًا أخيرًا من أن “الجهاد الحضاري” كما وصفه منظّرو الإخوان، لا يحتاج قنابل، بل يحتاج فقط صمتًا أميركيًا طويلًا

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى