الفرق المصرية والروسية ترقصان على إيقاع التحالف: الأوبرا تتحوّل إلى منصة دبلوماسية ناعمة

في مشهدٍ مهيب احتضنته دار الأوبرا المصرية مساء امس الخميس 12 يونيو، تحوّلت الاحتفالية الرسمية بالعيد الوطني الروسي إلى ما يشبه إعلاناً حضارياً عن تحالف استراتيجي يظهر على خشبة المسرح وأمام أعين العالم. بدا الحفل وكأنه رسالة سياسية مغلّفة بجماليات الفن، تؤكد بأن القاهرة تدرك أهمية أدوات القوة الناعمة في لحظة دولية تعجّ بالتوترات والتحولات.
العرض المشترك الذي جمع بين فرقة كوستروما الروسية للباليه الوطني وفرقة رضا المصرية للفنون الشعبية لم يكن مجرد ترفٍ ثقافي، بل نموذج بصري حقيقي لفكرة “التحالف المتناغم”، حيث امتزج الانضباط الروسي بالكثافة الشرقية في الإيقاع الشعبي المصري، فكانت النتيجة لوحات راقصة تشهد على قدرة الشعوب – رغم التباين الجغرافي – على التلاقي في أرض الفن. المشهد كان محملاً بالمعنى السياسي: روسيا التي تخوض معاركها الجيوسياسية الكبرى، ومصر التي تمضي في تثبيت موقعها كقوة إقليمية وازنة، تلتقيان عند مفترق التعاون الهادئ والعميق.
الحفل لم يكتفِ بجماليات العرض، بل أظهر أيضاً براعة في تصميم الإطار الدبلوماسي المحيط به، حيث ضمّ الحضور كوكبة من كبار المسؤولين المصريين، يتقدمهم المستشار محمود فوزي، وزير الشؤون النيابية والتواصل السياسي، والوزراء شريف فتحي، والدكتور شريف فاروق، والمهندس محمد شيمي، والطيار سامح الحفني، إلى جانب أعضاء بارزين من البرلمان والدبلوماسيين العرب والأجانب، وشخصيات ثقافية وإعلامية. وهذا الحضور لم يكن مجرّد بروتوكول، بل رسالة ضمنية بأن مصر ترى في علاقتها مع روسيا أحد الأركان الأساسية لسياساتها الخارجية خلال العقد القادم.
الكلمة التي ألقاها السفير الروسي جيورجي بوريسينكو جاءت دقيقة المعنى، ومبنية على أعمدة استراتيجية واضحة. فالرجل لم يكتفِ بإحياء المناسبة، بل استغلها ليُعيد تثبيت نقاط التقاء المصالح الروسية المصرية، وعلى رأسها مشروع محطة الضبعة النووية الذي تنفذه شركة روساتوم الحكومية، باعتباره نموذجًا فريدًا لتعاون طويل المدى مبني على الثقة المتبادلة، ونقل التكنولوجيا، والتكامل في المشاريع التنموية. ثم مضى في طرح رؤية سياسية تُشدد على دعم الحلول السلمية للأزمات الكبرى، خاصة في أوكرانيا وفلسطين، مؤكداً على التوافق الروسي المصري في ضرورة تفادي التصعيد، ودعم العدالة وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها.
الملفت أن الجمهور لم يكن جمهوراً عادياً. التصفيق الحار والانبهار الواضح الذي رافق كل لوحة فنية، خاصة تلك التي مزجت الزي الروسي بالتنورة المصرية، كشف عن وجود تعطّش شعبي – وربما نخبوي – لرؤية التعاون الدولي ليس فقط من باب الصفقات والمفاوضات، بل عبر المسارح، والموسيقى، والرقص، واللقاءات الثقافية. وكأن القاهرة تقول لموسكو: لنتجاوز لغة المصالح الباردة، ولنُشيد تحالفاً يتنفس دفء الشعوب وروح التقدير المتبادل.
وفي عمق الصورة، يتبيّن أن الحفل لم يكن فقط احتفاءً بروسيا، بل كان تمثيلاً حيّاً لخريطة مصر الجديدة في تحالفاتها. فالعلاقات بين البلدين لم تعد مقتصرة على التعاون العسكري المحدود، بل تتسع اليوم لتشمل مجالات الطاقة النووية، والصناعة، والسياحة، والتعليم، وحتى التنسيق في قضايا السياسة الدولية. والرؤية المصرية، كما ظهرت من خلال مستوى التمثيل الرسمي في الحفل، تؤكد أنها ماضية في اتباع سياسة “التعددية المتوازنة”، حيث لا حليف دائم إلا المصلحة الوطنية، ولا خصم مؤبد إلا من يهدد استقرارها ومكانتها.
هكذا كان مشهد دار الأوبرا: خشبة مسرح تحتضن بلاغة الجسد والفن، وصالة تفيض بنبض الدبلوماسية، وقاعة تتوسط القاهرة وتلامس موسكو… فعندما تلتقي الحضارات بهذه الطريقة، وتُنسج السياسة بخيوط الفن، تتشكل تحالفات أكثر رسوخاً من أي معاهدة، وأقرب إلى وجدان الشعوب من كل خطاب رسمي.