” الفاجومي ” يتململ في قبره ( 2 )” مش حاتلاقوا فى حياة أبوكو شىء تخجلوا منه ” !

بقلم : حمدي رزق
علي طريقة مشيناها خُطىً كُتِبَت علَينا ومَن كُتِبَت علَيهِ خُطىً مشاها .. لم يمشي نجم خطاه كخلق الله ، كان تقريبا يقفز عاليا متخطيا كل العكوسات التي تقف في طريقه ، لم تكن الرحلة سهلة ميسورة ، ولا الدابة مسيرة مأمورة ، كانت رحلة شاقة في طريق وعرة ، أدمت قدمي نجم ، وانهكته الخطوب ، ولكنها لم تنل من روحه الوثابة ، ظل حتي رحيله يخمش في وجه الحياة ..
كانت ولادته صعبه ، كما كان مهده شائكا ، وطفولته معذبة ، كذا شبابه لم يكن مرفها ، عمل نجم في معسكرات الإنجليز متنقلا بين مهن كثيرة، وفي “فايد” وهي احدى مدن القنال التي كان يحتلها الإنجليز التقى بعمال المطابع الشيوعيين و كان في ذلك الحين قد علم نفسه القراءة والكتابة، واشترك مع الآلاف في المظاهرات التي اجتاحت مصر سنة 1946 وتشكلت أثناءها اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال.
خرج الشاعر مع 90 ألف عامل مصري من المعسكرات الإنجليزية بعد أن قاطعوا العمل فيها على اثر إلغاء معاهدة 1936, وكان يعمل بائعا حينئذ فعرض عليه قائد المعسكر أن يبقى وإلا فلن يحصل على بضائعه, ولكنه تركها وذهب.
عمل في وزارة الشؤون الاجتماعية طوافا يوزع البريد على العزب والكفور والقرى وكان يعيد في هذه المرحلة اكتشاف الواقع بعد أن تعمقت رؤيته وتجربته. شعر حينئذ رغم أنه فلاح وعمل بالفأس لمدة 8 سنوات أن حجم القهر الواقع على الفلاحين هائل وغير محتمل. كان يجد في الواقع المصري مرادفات حرفية لما تعلمه نظريا، كان التناقض الطبقي بشعا.
في سنة 1959 شهد الصدام الضاري بين السلطة واليسار ، وانتقل من البريد إلى النقل الميكانيكي في العباسية أحد الأحياء القديمة في القاهرة. يقول “في يوم لا يغيب عن ذاكرتي أخذوني مع أربعة آخرين من العمال المتهمين بالتحريض والمشاغبة إلى قسم البوليس ….
عمل في ورش السكك الحديدية، واتهم في عملية نقل معدات من الورش شهدت عمليات نهب واسعة، بالتزوير، وسجن لمدة 3 سنوات بتهمة التزوير في أوراق رسمية، ولكن للمفارقة اكتشف قدرته علي الكتابة في السجن حين شارك في مسابقة نظمها المجلس الأعلي للفنون والآداب، وفاز بالجائزة الأولي وصدر له ديوانه الأول “صور من الحياة والسجن”، الذي كتبت له المقدمة د. سهير القلماوي، ليشتهر وهو في السجن.
يقول نجم “كانت أهم قراءاتي في ذلك التاريخ هي رواية ” الأم ” لمكسيم غوركي, وهي مرتبطة في ذهني ببداية وعيي الحقيقي والعلمي بحقائق هذا العالم, والأسباب الموضوعية لقسوته ومرارته. ولم أكن قد كتبت شعرا حقيقيا حتى ذلك الحين وانما كانت أغانى عاطفية تدور في اطار الهجر والبعد ومشكلات الحب التي لم تنته حتى الآن… وكنت في ذلك الحين أحب ابنة عمتي وأتمناها, لكن الوضع الطبقي حال دون اتمام الزواج لأنهم أغنياء″.
بعد خروجه من السجن تم تعيينه موظفا بمنظمة تضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية وأصبح أحد شعراء الإذاعة المصرية وأقام في غرفة على سطح أحد البيوت في حي بولاق الدكرور.
**
كانت رحلة نجم تنتظر فنانا بوزن وقيمة “الشيخ إمام ” حتى تخرج أشعاره كنموذج فريد يعبر عن الفقراء الذين أخلص لهم، وهو ما وضعه في طريقه القدر حيث تعرف على الشيخ إمام في حارة “حوش قدم” ليقرر أن يسكن معه ويرتبط به حتى أصبحوا ثنائي معروف وأصبحت الحارة ملتقى المثقفين.
يروي نجم “مع بدايات عام 1968 بدأت الدائرة تتسع حولنا كل ليلة فى حوش قدم أفواج من الناس تتقاطر على المنزل رقم( 2) بعطفة «سعد العرسه» كل ليلة نشوف وجوه جديدة وكل ليلة المرحوم الشيخ إمام يتوهج ويبدع وأجهزة التسجيل شغاله على ودنه ، والمدهش أننا لم نشعر بأى وجود أمنى ربما لأننا كنا نعيش حالة من النشوة لمجرد تعارف المريدين على بعض كل ليلة..
كل ليلة أعرف ناس جداد واجعهم جرح الوطن العزيز ، وكان أول خروج لنا من حوش قدم على يد الفنان “عدلى رزق الله ” الذى كان يقضى معنا أكثر أوقاته”.
أصبح الثنائي من أهم ظواهر تظاهرات الطلبة في الجامعات المصرية مطلع السبعينات، حيث انتشر أغانيهما في الوسط الطلابي وكان لها دور كبير في انتفاضة الخبز 19 يناير 1979 التي أطلق عليها الرئيس السادات اسم “انتفاضة الحراميه”. واتسع نطاق شهرتهما في العالم العربي، بينما تعرف العالم إليهما بعد أن غنى الشيخ إمام قصيدة «جيفارا مات».
يقول نجم عن رفيق حياته انه “أول موسيقي تم حبسه في المعتقلات من أجل موسيقاه وإذا كان الشعر يمكن فهم معناه فهل اكتشف هؤلاء أن موسيقى إمام تسبهم وتفضحهم”..! لكن يشاء القدر مرة أخرى أن ينفصل الثنائي الرائع بعد فترة، حتى أن الشيخ إمام اتهم نجم بأنه كان يحب الزعامة وفرض الرأى وانه حصد الشهرة بفضله ولولاه ما كان نجم..!
مع نكسة 1967، تغيرت لغة الفاجومي لتصبح سوطا ساخرا ، كانت أغنية “بقرة حاحا ” التي كتبت في 8 يونيو 1967، كما يقول الكاتب صلاح عيسي، أول بيانات الرد على الهزيمة، لم تنجح محاولات احتواء “نجم”، بخاصة في عهد الرئيس الراحل انور السادات، والذي كتب فيه نجم العديد من قصائد الهجاء والانتقاد من اهمها قصيدة “بيان هام”.
رفض كل محاولات المنظمات الشيوعية لضمه لعضويتها، ليكون صوتها، حرصا على استقلاله كشاعر شعبي، لكنه انضم إلى حزب الوفد منتصف يونيه عام 2010 بعد فوز الدكتور” السيد البدوي ” بانتخابات رئاسة الحزب، ثم أعلن استقالته في نفس العام جراء الأزمة التي تسبب بها البدوي عندما أقال “إبراهيم عيسى” من رئاسة تحرير “الدستور”، وبعد ثورة 25 يناير كان أحد مؤسسين حزب “المصريين الأحرار” .
لم تسع الفرحة شاعرنا الذي طالما نادى الشعب ليصحو من غفوته، عندما شاهد جموع المصريين في ميادين الحرية، تمنى لو كان معه رفيق الكفاح الشيخ إمام، لكن خاب أمل “نجم” مثلما حدث لملايين المصريين بوصول ” رئيس الإخوان ” إلى الحكم، وتوقع نهاية الإخوان سريعا ..
وقعت الواقعة كما توقع “نجم” وثار المصريون على مندوب الإخوان في القصر الرئاسي، كان لديه يقين كامل بأن الإخوان لن يكملوا عاما في الحكم.
فرح “نجم” بثورة المصريين وأعلن عن تقديره واحترامه للفريق أول “عبد الفتاح السيسى” وزير الدفاع، قائلا: “شعرت منذ أول خطاب له بأنه مثل الزعيم الراحل “جمال عبد الناصر ” وعليه أن يترشح لرئاسة الجمهورية،
لم يكتف “نجم” بإعلان التأييد بل انضم إلى قائمة المؤيدين لترشح الفريق عن طريق توقيعه استمارة حملة “كمل جميلك”, لترشيح السيسي رئيسا لمصر.
ظل نجم يناضل الى جانب الطبقة الكادحة، كان يقول “الفقر من اختياري، كل عائلتي فقراء، فلم إذن يجب أن أكون مختلفا عنهم؟!”.
وعندما نشر سيرته الذاتية بعنوان “الفاجومى”، أهدى الكتاب لبناته الثلاث “عفاف ونوارة وزينب” قائلا “يمكن ما تلاقوش فى حياة أبوكو شىء تتعاجبوا بيه لكن أكيد مش حاتلاقوا فى حياة أبوكو شىء تخجلوا منه، هو دا اعتقادى اللى دافعت عنه، ودفعت ثمنه بمنتهى الرضا”.