لست لامًا شمسية… بل أبًا يُنطق فعله قبل اسمه”

بقلم: جيهان سيف

شهر يونيو… شهر الشمس، شهر الضوء، شهر البدايات الساخنة في الصيف، والأهم: شهر الأب.

هو الشهر الذي يُنير في تقويم الأيام مناسبة عزيزة لا يتوقف عندها كثيرون، لكنها تستحق التقدير: عيد الأب.

وفي هذا اليوم، لا نحتفل بلقب، بل بدور. لا نحتفل بشخصٍ وُلد له أبناء، بل بمن قرر أن يكون “أبًا بمعناه الكامل”: مسؤولية، واحتواء، وعطاء لا ينضب.

كل عام وكل أب حقيقي بألف خير… كل من اختار أن يكون الحامي والسند والظل والأمان. وكل عام وكل من أجبرته الظروف أن يتحول إلى “أب” رغم أنه لم يُمنح اللقب رسميًا – أمًا كانت أو أخًا أو حتى صديقًا – لكنه قام بالدور النبيل، فاستحق كل الاحترام.

الأبوة ليست لقبًا… بل مشروع حياة

في بدايات المقال، دعوني أطرح سؤالًا قد يبدو غريبًا:

ما علاقة الأب باللام الشمسية؟

اللام الشمسية، كما تعلمنا في طفولتنا، تُكتب ولا تُنطق.

تمامًا كما بعض “الآباء” في مجتمعاتنا… أسماء على الورق، وجود شكلي، لكن بلا صوت، بلا فعل، بلا أثر.

وهنا تكمن المأساة: أن يتحول “الأب” من معنى إلى مجرد مسمى.

نحن نعيش في مجتمعات، للأسف، تجعل الزواج والإنجاب خطوات تلقائية لا تفكير فيها.

شاب يبلغ سنًا معينًا، فيُطلب منه الزواج. لا أحد يسأله: هل هو مستعد لتحمّل المسؤولية؟

هل لديه الوعي النفسي والمادي والاجتماعي لتكوين أسرة؟

هل يفهم أن “الأبوة” ليست سلطة، بل مشاركة وتربية وبناء وقيادة؟

أما في المجتمعات الأكثر وعيًا، نجد أن قرار الإنجاب لا يُتخذ إلا بعد تمهيد طويل:

يفكر الرجل والمرأة في مدى استعدادهما لتنشئة إنسان، مدى استقرارهما، مدى تحمّلهما للصعوبات، لأن الطفل ليس “مشروعًا بيولوجيًا” بل امتدادًا لحب ناضج ومسؤول.

الأب… حجر الأساس في بيت الإنسانية

“رب الأسرة”… عبارة عظيمة لا يُمنحها إلا من يستحقها.

رب الأسرة هو ذلك الرجل الذي اختار زوجته بعقلٍ قبل أن ينجذب لشكل، اختار قلبها قبل مظهرها، شريكته في التربية لا مجرد أنثى تُنجب.

هو من يشاركها كل صغيرة وكبيرة، من يحترمها ليعلّم أبناءه كيف يكون الاحترام متبادلًا في بيتهم، من يحبها ليجعل الحب سلوكًا لا شعارًا.

الأب الحقيقي هو من يحاور زوجته وأولاده، لا من يُصدر الأوامر فقط.

الحوار – ببساطة – هو جسر الأمان بين الأبناء وأبيهم. هو الذي يكسر الخوف ويبني الثقة ويُعلّم الأبناء كيف يُعبّرون عن مشاعرهم، ويمنحهم إحساسًا بأن بيتهم مساحة آمنة لا سجنًا صامتًا.

الموازنة بين العمل والأسرة… معادلة الأب الناجح

ندرك أن الحياة قاسية، وأن مسؤوليات العمل ثقيلة على كاهل الأب، لكن…

الأب الحقيقي لا يجعل “العمل” حجة لغيبته النفسية والوجدانية.

الأب الذي ينجح في تحقيق المعادلة الذهبية – بين السعي خلف لقمة العيش، وبين حضور حقيقي في حياة أبنائه – هو الذي يصنع أثرًا لا يُمحى.

الأب هو من يتذكر أن ابنه لا يحتاج فقط للمال… بل إلى جلسة صادقة، كلمة دعم، حضن وقت الانهيار، وابتسامة وقت التردد.

الأب الحقيقي: لا يصرخ… بل يعمل في صمت

رسالتي لكل رجل:

لا تكن لامًا شمسية… مكتوبًا لا مسموعًا.

كن ذلك النور الذي يَظهر في أفعال أبنائك، في طريقتهم في الحب، في تعاملهم مع أمهاتهم، في انضباطهم، في ثباتهم وقت الأزمات.

نحن اليوم نعيش واقعًا مريرًا في محاكم الأسرة، وفي صفحات الجرائد، نقرأ عن أطفال ضائعين، عن مشكلات لا تُعد… وكلها بدأت من أبٍ لم يكن في مكانه، لم يُؤدِ دوره كما يجب.

كن أنت البداية الصحيحة، كن ذلك الذي يختار جيدًا، ويشارك، ويقود، ويتحاور، ويحب، ويُعلّم، ويحتوي.

كن الحائط الذي يُسند، لا الذي يُسقط.

وختامًا…

في شهر الأب، لا نريد احتفالات شكلية، بل وعيًا عميقًا.

نريد أن ننظر في المرآة ونسأل أنفسنا: هل نحن آباء بالاسم أم بالفعل؟

هل نحن القدوة التي نريد لأبنائنا أن يصبحوا مثلها؟

هل نحن السند وقت الأزمات، والصوت وقت الصمت، والعقل وقت الارتباك؟

إلى كل أبٍ لم يُقصّر…

إلى من يُعطي من روحه قبل جيبه،

إلى من يُحب في صمت، ويُصلح دون صخب…

كل عام وأنت العمود الفقري لهذا الوطن،

كل عام وأنت الأمان الذي لا يُكتب، بل يُحسّ

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى