اللواء الدكتور ممدوح شفيق النحاس يكتب: الضرب ساعة الحساب!

(كيف انتقلنا من “البيت ببلاش” إلى “البيت بفلوس”.. يا للهول!)

“الضرب ساعة الحساب”، لا أقصد بها الضرب بمعناه الشعبي – رغم أنه وارد – وإنما أقصد ضربة الحقيقة حين تدق الساعة، ويكتشف البعض أن المجانية انتهت، وأن السكن في شقة بـ12 جنيهًا شهريًا لم يكن عقد زواج أبدي، ولا عقد امتلاك عاطفي بالمحبة والتاريخ وسند العيال.

القانون رقم 164 لسنة 2025، والذي صدر لرفع القيمة الإيجارية لما يُعرف بالإيجار القديم، لم يكن مفاجأة إلا لمن قرر أن يُغمض عينيه عن الواقع، ويواصل حكاياته الأسطورية عن “زمن كان فيه الناس بتدفع إيجار 3 تعريفة وتشرب شيشة على حساب صاحب البيت”.

لكن الواقع ضرب الجرس.. وبدأت ساعة الحساب تدقّ.

“يا عم الحاج.. هو إحنا كنا قاعدين غصب عنهم؟!”

هكذا صاح الحاج سعيد، 77 سنة، من داخل شقته بمنطقة الدقي، والتي يستأجرها منذ 1965 بمبلغ 9 جنيهات وربع.

يرتدي فانلة داخلية من زمن عبد الحليم، ويحمل صكًا قديمًا كُتب فيه أن الإيجار “مدى الحياة”، وكأنها جائزة نوبل في الاستقرار العقاري.

“أنا مش ضد إن الناس تدفع إيجار عادل.. بس ليه دلوقتي؟ ما أنا كنت ماشي كويس من غيره!”

– العبارة دي بالضبط تُلخص المأساة. مش لأن القانون ظالم، ولكن لأن الرفاهية المجانية كانت خلاص بقت حقًا مكتسبًا… بالوراثة!

في بلاد أخرى، يُعتبر مالك العقار رجلًا استثماريًا. أما عندنا، فقد كان يُنظر إليه – في أفضل الأحوال – ككائن طفيلي، يحصل على جنيهات قليلة كل شهر مقابل “خدمة مجتمعية” تتمثل في سكوت المستأجر على وجوده.

صاحب العقار كان يمر من أمام شقته التي استثمر فيها عمره، فيجد حذاء المستأجر على الباب، ويهمّ أن يطرقه لاستلام الإيجار، ثم يتراجع خجلًا.. لأن الحذاء أغلى من الشقة.

لكن الآن؟ القانون أتى ليقول إن صاحب العقار إنسان أيضًا، وربما من حقه أن يأخذ شيئًا يُوازي سعر سندوتش كشري!

شريحة عريضة من المستأجرين دخلوا مرحلة “المقاومة السلمية”، تلك التي تبدأ بعدم قراءة الجريدة الرسمية، ثم بتجاهل إشعارات المحكمة، وأخيرًا بـ”إحنا ناس غلابة مش هاندفع”، وهي العبارة التي تُستخدم في مصر عمومًا عند الرغبة في البقاء في مكان ما بدون مقابل.

ومن الطرائف أن بعضهم قرأ نص القانون، ففهم منه أن رفع الإيجار سيكون “بشكل تدريجي”… فقرر أن يدفع “بشكل تدريجي أيضًا”، يعني نص جنيه في أول السنة، وكيس لبّ في آخرها.

“بس إحنا ربّينا أولادنا هنا!”

ده حقيقي.. وبالفعل، بعض الشقق الإيجار القديم شهدت خمس أجيال متتالية، بدءًا من الجد الذي وقع العقد أيام العدوان الثلاثي، إلى الحفيد الذي يذاكر الآن للثانوية العامة بجانب عقد الإيجار الأصلي.

لكن منطق “إحنا ربّينا عيالنا هنا” لا يصلح كمبرر للاحتلال المدني. فلو ربّيتهم في نادي الجزيرة، هل يعني إنك تورّثه ليهم؟!

في مشهد درامي استثنائي، بدأ بعض ملاك العقارات يشعرون أنهم عادوا للحياة.

أحدهم قال: “أول مرة أحس إن العمارة بتاعتي بجد… كنت فاكرها اتصادرت بالأدب!”.

وبدأ هؤلاء المظلومون القدامى، الذين عُوملوا لسنوات كـ “مخلوقات ديكورية”، يطالبون بحقوقهم في دخل شهري محترم، أو حتى كوب شاي في البلكونة بدون إحساس بالذنب.

النهاية؟ لا تزال مفتوحة…

القانون صدر، والمستأجرون غاضبون، والملاك مبتهجون، والشارع المصري يتحسس ملامح معركة قادمة بين “ناس متعودة ما تدفعش”، وناس كانت متعودة ما تاخدش حاجة.

لكن الضرب… دائمًا ساعة الحساب.

د. ممدوح شفيق النحاس

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى