العالم بلا مبادئ… والبقاء للأقوى : بقلم اللواء صلاح المعداوي

منذ أن انكسرت منظومة القيم بعد الحرب العالمية الثانية، والعالم يسير نحو هاوية أخلاقية مكتملة الأركان، لكن ببطء محسوب ومدروس. لم يعد هناك فارق واضح بين الخير والشر، بل أصبح المعيار الوحيد للبقاء هو امتلاك القوة. القوة وحدها هي ما يُسمع الآن، وما دونها فهو صراخ في العراء. وفي ظل هذا المشهد المضطرب، تأتي الحكمة من أفواه من خَبِروا دهاليز السياسة، وخاضوا معارك الهيمنة والنفوذ. حين سُئل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن اتهامات الغرب له بأنه ديكتاتور، ومهووس بالتسلح، لم يدخل في مهاترات لغوية ولا بيانات متشنجة، بل حكى قصةً من التراث الروسي… قصة تختصر ألف كتاب، وتشرح آلاف المؤتمرات الصحفية.
قال: كانت هناك عائلة كبيرة تعيش في قرية، تمتلك مزرعة مترامية الأطراف، يملكون فيها الخيول والأبقار والأغنام، وتفيض أراضيهم بالمحاصيل والثمرات. اعتاد الأب، كل أسبوع، أن يذهب إلى السوق مع أولاده الكبار لبيع غلة الأرض وشراء ما يلزم، ويترك المزرعة في عهدة أحد أبنائه، فتى يافع متين البنية، مدرَّب على حمل السلاح، لا يهاب، ولا يغفل. وذات يوم، تقدم إليه غرباء، متظاهرين باللطف والوداعة. وقفوا على مسافة، وبدأوا يكلمونه بكلام مُنمق، يوحون له بأنهم مسالمون، لا يريدون سوى الخير. لكنهم في حقيقتهم كانوا عصابة خطيرة، تمتهن النهب والسطو، وتحترف الخداع. عرضوا عليه ساعة يد جميلة، براقة، كأنها قطعة من ذهب. راقت له، فسأل عن ثمنها. وهنا، جاء الثمن صادمًا: “أعطنا بندقيتك، وخذ الساعة.” لحظة تردد، لحظة طيش، لحظة انبهار… لكنها لم تدم طويلاً. قال لهم: “عودوا في يوم آخر.”
عاد الأب من السوق، فقص عليه الابن القصة، ولم يُخفِ إعجابه بالساعة. ابتسم الأب ابتسامة ساخرة، وقال له: “يا بني، أعطهم بندقيتك، وخذ الساعة. وحين يعودون إليك، يسرقون ماشيتك، وينهبون مزرعتك، ويغتصبون النساء في بيتك، ويقتلون من يعترضهم، عندها، انظر إلى ساعتك البراقة، وتباهَ بها قائلاً: إنها تشير إلى الخامسة مساءً.” عندها، فهم الفتى الدرس. الدرس الذي لا يُشترى، ولا يُعلَّم في المدارس: أن التنازل عن أدوات الحماية، تحت بريق الخديعة، يعني الفناء.
هذه القصة الرمزية ليست مجرد حكاية ريفية من التراث الروسي، بل هي إسقاط دقيق على واقعنا العربي، بل على المشهد الدولي كله. اليوم، تأتيك قنوات الغرب، ومنصاته، وجيوشه الإلكترونية، تحمل لك “ساعة الحرية”، و”ساعة حقوق الإنسان”، و”ساعة الديمقراطية”، وتطلب منك مقابلاً واحدًا: أن تضع بندقيتك، أن تتخلى عن وعيك الوطني، أن تُسقط دولتك، أن تهدم مؤسساتك. إنهم يريدون منك أن تصدّق أن خلاصك في ما عندهم، وأن قوتك فيما يملكون، وأن وطنك يمكن أن يُبنى من خارجك، لا منك.
وهم في ذلك لا يكتفون بخداع مباشر، بل يستخدمون أدوات داخلية: “النشطاء”، و”الإعلاميين”، و”الحقوقيين المموّلين”، و”العملاء المتأسلمين”، وكلهم يلبسون زي الوطن، ويتكلمون لغة الدين، ويخدعون الناس بالدموع والخطب والشعارات. والنتيجة؟ مجتمعات مفككة، أوطان محروقة، شباب تائه، ونساء مفجوعات، وخرائط تُرسم من خارج حدود الأرض التي تسيل عليها دماء الأبرياء.
ومن خلف الستار، يخرج المتأسلمون، أبناء استخبارات الأعداء، يرفعون شعارات الجهاد، بينما هم أول من باعوا الأرض، واستباحوا الدم، وزيّفوا العقيدة. إنهم لا يحاربون الكفار، بل يقتلون المسلمين في المساجد والكنائس. لا يرفعون راية التوحيد، بل يزرعون رايات التقسيم، ويغذّون الفتنة الطائفية والعرقية والمذهبية. وإذا سألتهم عن الوطن، سخروا، وقالوا: “الولاء فقط للدين” – وهم في الحقيقة، لا دين لهم ولا وطن. والأدهى، أنهم يعيشون بيننا، يتكلمون بلهجتنا، ويأكلون من خيرات بلادنا، لكنهم في قلوبهم يلعنون الأرض ومن عليها. يخونون وهم يبتسمون. يخربون وهم يصلّون.
إلى كل شاب يفتتن ببريق الخارج، وإلى كل فتاة تنخدع بزيف الشعارات… لا تفرّطوا في وعيكم، لا تتنازلوا عن سلاح كرامتكم. لا تعطوا العدو بندقيتكم لتأخذوا ساعة فاخرة، فتفيقوا بعد سنوات على وطن ضائع، وهوية ممزقة، ومستقبل منهوب. تلك الساعة، إن حملتموها بدلًا من البندقية، فلن تخبركم إلا بموعد السقوط.
وفي القلب من كل هذا الخراب، تبقى إسرائيل هي الكيان الأخطر، والأسوأ، والأبشع. هي ليست دولة ذات تاريخ، بل “ورم خبيث” زرعه الاستعمار في جسد الأمة. حكومتها الحالية – اليمينية المتطرفة – هي أقسى ما أنجبت تلك الدولة الطارئة، التي لم تبلغ بعد 77 عامًا. ولا نقول عنها “تاريخًا”، لأنها بلا تاريخ… بل مسخ مؤقت، مصيره الزوال.
لقد لخّص فلاديمير بوتين هذه القصة بدقة، لكن من عبّر عن مضمونها بجملة حاسمة كان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حين قال: “الدول تقوى وتبقى بأبنائها الشرفاء، ولا تضيع وتُدمر إلا بأيدي بعض أبنائها الخونة المأجورين. وإذا رأيت دولة تضيع، فاعلم أن من ضيّعها في المقام الأول هم أبناؤها.” كلمات يجب أن تُحفر في الذاكرة. لأن كل من باع وطنه تحت شعار أو فكر أو دين زائف، كان هو الرصاصة الأولى في قلب البلاد.
لا تفرّطوا في سلاح الوطنية. لا تستبدلوا وعيكم بساعة من الوهم. لا تسلّموا أوطانكم لمن خدعوكم باسم الحرية والدين.
تحيا مصر… تحيا مصر… تحيا مصر
اللواء أ.ح / صلاح المعداوي
محافظ الدقهلية الأسبق
الأمين العام لحزب حماة الوطن بالقاهرة