نتنياهو وأوهام “إسرائيل الكبرى”… بين أسطورة التوراة وحقيقة الهزيمة

لم يكن بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بحاجة إلى كثير من الذكاء ليدرك أن تصريحاته الأخيرة عبر قناة i24 الإسرائيلية، حول ما يسميه “مهمة تاريخية وروحانية” وارتباطه برؤية “إسرائيل الكبرى”، ستشعل غضبًا عربيًا وإسلاميًا واسعًا. ومع ذلك، قالها عامدًا، مستندًا إلى عقيدة سياسية عنصرية وإلى إرث صهيوني قديم، يرى في التوسع الجغرافي والهيمنة المطلقة حقًا إلهيًا مزعومًا، متجاهلًا أن هذه الرؤية تمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي العربي واستفزازًا صارخًا لسيادة الدول.

ما يتحدث عنه نتنياهو ليس مجرد حلم شخصي أو فكرة عابرة، بل هو إعادة إحياء لأسطورة استعمارية وُلدت مع الحركة الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر، وتربّت عليها أجيال من قادة الاحتلال. هذه الخريطة المزعومة تضم فلسطين كاملة، ومعها أجزاء من الأردن وسيناء ومناطق من لبنان وسوريا، وتغذت على نصوص توراتية محرّفة استُخدمت كسلاح أيديولوجي لتبرير القتل والتهجير والاستيلاء على الأرض.

غير أن هذه الرؤية، التي حاولوا تغليفها بقداسة دينية مزعومة، لم تكن يومًا إلا ستارًا لمخطط توسعي اصطدم دومًا بجدار الصمود العربي والفلسطيني، من بطولات سيناء والجولان إلى صمود بيروت وغزة. واليوم، يحاول نتنياهو نفخ الروح في جثة سياسية متحللة، مستغلًا الانقسامات العربية والتحولات الإقليمية وبعض موجات التطبيع، متوهمًا أن كل ذلك منحه صكًّا مفتوحًا للتمدد.

قد يتمكن نتنياهو من إثارة حماسة جماهير اليمين المتطرف داخل كيانه، لكن الواقع والتاريخ يعلّمان أن المشاريع الاستعمارية، مهما بلغت قوتها، تنهار أمام إرادة الشعوب. هكذا انهار الوجود الصليبي بعد قرنين من الاحتلال، وهكذا اندحر الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وسقط الاحتلال البريطاني في مصر والعراق وفلسطين. واليوم، رغم ما يمتلكه الاحتلال من ترسانة أميركية ودعم غربي واسع، يقف عاجزًا أمام مقاومة لا تملك إلا الإيمان بالحق وبعض البنادق، لكنها تملك أيضًا إرادة النصر.

وعندما يجرؤ نتنياهو على الحديث عن “إسرائيل الكبرى” التي تمتد — في أوهامه — إلى أجزاء من مصر والأردن، فإنه يكشف بوضوح أن أطماعه تتجاوز فلسطين إلى قلب المنطقة. لكن عليه أن يتذكر أن سيناء كانت وما زالت مقبرة لجيوش الغزاة، وأن مصر التي حطمت أسطورة خط بارليف لن تتنازل عن شبر واحد. أما الأردن، الذي دفع دمًا غاليًا في مواجهة المشروع الصهيوني، فلن يسمح أن يكون هدفًا في لعبة التوسع الإسرائيلية.

رسالة واضحة إلى نتنياهو:

يا نتنياهو، إذا كنت تعتقد أن ضعف الموقف العربي الحالي يعني أن الأمة ماتت، فأنت واهم. هذه الأمة تعرف كيف تصبر، وكيف تستعد، وكيف تنفجر في لحظة فتغيّر موازين التاريخ. أحلامك لن تُكتب على الخرائط، بل على شاهد قبرك السياسي. القدس ستظل عربية إسلامية مسيحية، عصية على التهويد. وسيناء والأردن سيبقيان شوكة في حلق كل محتل، تحرسهما دماء الشهداء من غزة إلى عمان ومن رفح إلى القاهرة، كسياج من نار حول هذه الأرض.

إن “إسرائيل الكبرى” ليست سوى كذبة كبرى، مشروع وُلد على الدماء وسيُدفن بها. نتنياهو يظن نفسه صانعًا للتاريخ، لكنه مجرد حلقة باهتة في سلسلة الغزاة الذين مرّوا من هنا وابتلعهم تراب هذه الأرض. فالتاريخ الحقيقي ليس ما يُكتب في أسفار التوراة المحرفة، بل ما تخطه الشعوب بدمائها وصمودها.

وسيأتي يوم، ربما أقرب مما يتخيله نتنياهو، تُمحى فيه كل هذه الأوهام، وتبقى الحقيقة الوحيدة راسخة: هذه الأرض عربية، والاحتلال — مهما طال — زائل لا محالة

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى