اللواء الدكتور ممدوح شفيق النحاس يكتب: دورات سياسية للمسؤول

لم تعد أزمة الدولة في قراراتها بقدر ما باتت في طريقة تقديم هذه القرارات والتعبير عنها أمام الناس. الخطاب السياسي لم يعد مجرد كلمات تُقال في مؤتمر أو بيان يُقرأ على عجل، بل صار أداة لصناعة الوعي، ووسيلة لتشكيل الانطباعات وبناء الثقة أو هدمها. ومع ذلك، فإننا نلحظ في واقعنا المعاصر أن كثيرًا من المسؤولين يتعاملون مع الكلمة باعتبارها أمرًا ثانويًا، في حين أنها قد تصنع أزمة أو تفتح أفقًا من الحلول.
لقد غاب المسؤول السياسي صاحب الرؤية العميقة القادر على مخاطبة الجماهير بوعي وذكاء، وحل محله في كثير من المواقع مسؤولون أقل كفاءة، يكتفون بعبارات إنشائية أو بتصريحات مرتجلة، تتسبب في مشكلات أكثر مما تعالج. هذا الغياب جعل الخطاب الرسمي في بعض الأحيان ضعيفًا، غير متماسك، وأحيانًا منفصلًا عن الواقع، في وقت تحتاج فيه الدولة إلى خطاب مدروس، محسوب الكلمات، يعرف متى يصمت ومتى يتكلم.
من هنا تبرز الحاجة الملحة إلى تنظيم دورات تثقيفية متخصصة للمسؤولين في السياسة والخطاب الإعلامي. فالمسؤول لا يُقاس فقط بقدرته على اتخاذ القرار، بل أيضًا بمدى وعيه بأثر كلماته على الداخل والخارج. وهذه الدورات ينبغي أن تركز على قواعد أساسية لا غنى عنها، أولها فهم أسس تحليل الخطاب السياسي: كيف تُبنى الرسالة، وما الرموز والدلالات التي تحملها، وكيف يمكن أن تُقرأ بأكثر من زاوية.
كذلك، يجب أن يعرف المسؤول حدود الرسالة السياسية والإعلامية، وأن يعي أن بعض الحقائق تُقال، وبعضها يُدار بدبلوماسية، وبعضها يُؤجل لحسابات أعقد. فليست كل كلمة تصلح للعلن، وليست كل رسالة ملائمة لكل جمهور. وإدراك هذا التوازن هو ما يميز الخطاب السياسي الرشيد عن الخطاب المرتجل.
إن الدعوة إلى هذه الدورات ليست ترفًا فكريًا أو مقترحًا شكليًا، بل هي ضرورة وطنية لحماية صورة الدولة وصيانة العلاقة مع المواطنين ومع العالم الخارجي. فالمسؤول المثقف إعلاميًا وسياسيًا يصبح أكثر قدرة على بناء الثقة، وأكثر وعيًا بأثر الكلمة، وأكثر حرصًا على أن يكون خطاب الدولة منسجمًا مع قوتها ومكانتها. وفي المقابل، فإن المسؤول الذي يجهل قواعد الخطاب يفتح الباب لأزمات لا داعي لها، ويُفقد الدولة جزءًا من رصيدها المعنوي أمام شعبها وأمام العالم.
لقد آن الأوان أن تعترف مؤسساتنا أن الخطاب السياسي ليس مسألة ثانوية أو تكميلية، بل هو جزء أصيل من إدارة الدولة، وأن الاستثمار في تدريب المسؤولين على صناعة الخطاب لا يقل أهمية عن تدريبهم على صياغة القرار. فالكلمة الرشيدة، في أحيان كثيرة، تسبق القرار وتؤمّن طريقه.