صموئيل العشاي يكتب: ٧٠٠ يوم.. وأطفال غزة بين أنياب الجوع وأكفان المقابر

سبعمائة يوم مرّت، والعدّاد ما زال يحصي الجراح، كأن الزمن انكسر عند غزة، وكأن عقارب الساعة لم تعد تقيس سوى الدم النازف من بين الضلوع. سبعمائة يوم مرّت، ولم يعد للعالم وجه، سقطت الأقنعة، سقطت الإنسانية، سقطت القوانين والمواثيق، ولم يبقَ إلا صمت مقابر جماعية تُفتح كل صباح لتبتلع طفلاً جديداً، وأماً جديدة، ومسناً كان يتوكأ على بقايا عمره، فإذا به يُلقى عارياً للرياح ليشهد العالم على جلد فوق عظم.

أي قلب يمكن أن يحتمل مشهد طفلٍ يتضور جوعاً حتى يذبل كأوراق الخريف؟ أي عين لم تُحرقها صور الأجساد الممزقة تحت الركام؟ أي ضمير يمكن أن ينام بينما غزة تحترق بالحصار والقصف والجوع؟

يا الله… كيف نقف أمامك؟ ماذا نقول؟ هل اكتفينا بالدموع على الشاشات؟ هل اكتفينا بالبوستات واللايكات؟ هل صلواتنا تكفي؟ أم أن الذنب أكبر من كل الركعات والدعوات؟

غزة اليوم ليست مجرد مدينة، إنها المرآة السوداء التي كشفت قبح هذا العالم. إنها اختبار البشرية الذى سقط فيه الجميع: أممٌ صمتت، منظمات انهارت، قانون دولي صار حكاية للتندر، وقادة تاجروا بالدماء.

سبعمائة يوم، وما زال نتنياهو وجيشه النازي يلتهمون غزة قطعة قطعة: أرضاً، وبيوتاً، وأحلاماً، حتى بات أكثر من نصف القطاع في قبضتهم، والجزء الباقي يعيش موتاً بطيئاً بالحصار. المستشفيات تُقصف، الأدوية تُمنع، الأطفال يختنقون بلا أوكسجين، والمرضى يموتون بلا دواء. إنها ليست حرباً فقط، بل مجاعة متعمدة، إبادة ممنهجة، وتجربة قاسية لترويض العالم على قبول الجريمة كأمر عادي.

ولكن، غزة التي تنزف، هي ذاتها غزة التي لم تنكسر منذ 1948، غزة التي تنجب المقاومة مع كل شهيد، وتورثها مع كل جنازة. غزة التي تقول بدمائها: “لن تمروا”.

مصر وحدها تقف في قلب النار، تدرك أن غزة ليست مجرد جغرافيا، بل قضية أمن قومي وإنساني وأخلاقي. فتفتح معبرها قدر ما تستطيع، وتقاوم الضغوط كي لا تُمحى رفح من الخريطة، لكنها وحدها تواجه عالماً أصمّ أبكم، يرى المدينة تُباد ثم يواصل صفقاته السياسية والتجارية وكأن شيئاً لم يكن.

وإذا اكتملت الجريمة واحتل نتنياهو غزة كاملة؟ سيكون المشهد يوم قيامة أرضي: تهجير قسري، تحويل المدينة إلى ثكنة عسكرية، دفع مئات الآلاف إلى البحر أو الصحراء. لكنه، وهو يوسع جغرافيته بالحديد والنار، يكتب بنفسه شهادة سقوط دولته، ويزرع في الأرض بذور مقاومة جديدة أشد عناداً، وأشد يأساً، لأن من يعيش بلا أمل لا يخشى الموت.

التاريخ لن يرحم: سيسجل اسم نتنياهو بصفته “نازي القرن الحادي والعشرين”. وستسقط إسرائيل في وعي العالم كذبة “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”. صارت صورتها دولة قاتلة، دولة جائعة للدماء، دولة تطاردها الأعلام الفلسطينية من أمريكا إلى أوروبا، حيث بات الشباب هناك يهتفون باسم فلسطين ويطردون الإسرائيليين من شواطئهم. أي “إنجاز” هذا غير أن يحوّل شعبه إلى غرباء منبوذين في كل مكان؟

يا غزة… يا جرحنا الذي لا يندمل، يا صرخة أطفالك التي تشق السماء، يا رائحة الخبز المفقود والماء الملوث والدواء المحروم… لست مأساة عابرة، بل زلزالاً أخلاقياً لن يتوقف صداه. سبعمائة يوم مرّت، لكن بكاؤك ما زال في أعماقنا، وصورك تطاردنا حتى في أحلامنا.

ستخرجين من بين الركام، كما خرجتِ من النكبات السابقة، وستكتبين بدمك الحبر الجديد لتاريخ لا ينتهي. أما العالم الذي خانك، فسوف يظل يطاردُه عاركِ إلى أن يسقط بدوره، كما سقطت إنسانيته منذ سبعمائة يوم.

اظهر المزيد

تعليق واحد

  1. تحياتي لحضرتك استاذنا صموئيل العشاي
    الوطني المحب لشعبة وعروبته
    مقال أكثر من رائع خالص تحياتي
    اخى العزيز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى