من «هيستريا» إلى «ضي»: السينما تبحث عن خيط النجاة ونغمة تُضيء عتمة الحكاية

يقدم هذا النقد قراءة مركّزة لفيلم عربي حديث يعيد تشكيل فكرة النور الداخلي كقوة تضبط مسار الروح وتواجه العتمة الاجتماعية، وتفتح باب الأمل والإنسانية في عالم يعج بالصخب. العمل يطرح السؤال الجوهري عن معنى الضوء الذي يختبئ في الإنسان وكيف يمكن لخيطه الرفيق أن يربط بين الفرد والجماعة.

المؤلف هيثم دبور والمخرج كريم الشناوي يقدمان تجربة بصرية ووجدانية تسعى إلى استكشاف اللاوعي والبحث عن تقبل الآخر والاختلاف كمدخل لإيجاد معانٍ مشتركة. الرحلة تقود إلى فهم أن كل إنسان يحمل ضياءً خاصاً به، وأن الالتقاء بين هذه الأضواء يتطلب تفهّماً وتفادياً للنزاعات التي تفصل بين البشر.

البطل الرئيسي بدر محمد، صبي من أراضي النوبة في الرابعة عشرة من عمره، يعاني من حالة المهق التي تجعل التنمر جزءاً من تجربته اليومية. ورغم ذلك يمتلك صوتاً عذباً يعبر عن رغبة في العثور على ضوئه الخاص، وهو مسعى تقوده المدرسة المسيحية الموسيقية “صابرين” وتدعمه موهبته في طريقه إلى القاهرة. يصاحبه في الرحلة والدته الفنانة السودانية إسلام مبارك وأخته حنين سعيد، ويواجه معهما صعوبات تتكاثر في حكاية يتحكّم بها عنصر المصير والصدفة.

تتنقل الكاميرا مع الأربعة أبطال من محافظة إلى أخرى، وتبرز لقطات فوتوغرافية رائعة لشروق الشمس في الأقصر مع مناطيد ملونة تتماهى مع مشاهد من عالم الرسوم المتحركة كاستعارة للحلم الذي يسعى إليه البطل. يظهر في الفيلم ضيوف شرف من أسماء بارزة مثل أحمد حلمي، محمد شاهين، عارفة عبد الرسول، أمينة خليل، صبري فواز، ولميس الحديدي، إضافة إلى حضور خاص للممثل محمد ممدوح. تمثل هذه المشاركة تدعيمًا للبناء الدرامي وتمنح العمل عمقًا إضافيًا يربطه الجمهور بمسار الشخصيات.

يُروى الحدث خلال مدة زمنية محدودة تقارب 48 ساعة، وهو ما يمنح الفيلم طابع الرواية الطويلة أكثر من الفيلم التقليدي، بينما يُستفاد من صوت الفنان محمد منير كجسر روحي ولغة سمعية عريقة تعبر عن واقع طموح يبحث عن جمالٍ وخلاص. في اللحظات التي يظهر فيها منير كضيف شرف، يتجلى قيمة العمل كإنتاج استثنائي يعود لشاشة السينما بعد غياب وتأكيدًا على قدرته على إثارة النقاشات حول معنى الأمل والضمير البشري.

في زمن تتزايد فيه العتمة من حولنا ومن داخلنا، يفتح الفيلم نافذة ضوء ترى من نحن وأين نقف، وتحدّد طريقة تفكيرنا بلا ادعاء ولا تزييف. ليس عملاً جماهيرياً تقليدياً فحسب، بل تجربة حقيقية حجزت لنفسها مكاناً في مهرجانات دولية ولفتت انتباه المثقفين والمهتمين بالشأن السينمائي، باعتبارها محاولة مختلفة تستحق التأمل والنقاش. فالفيلم يضع الاختلاف كطاقة إيجابية تشيّد جسراً بين الناس وتعيد تعريف قيم الإنسانية والكرامة، مع تراث النوبة الجنوبية كخلفية ثابتة تشدّ الحكاية إلى جذور عميقة وتدفع نحو نور ينتصر على مخاوف التهميش.

ختاماً، يقدّم هذا العمل رؤية فنية تسعى إلى إعادة تعريف علاقة الإنسان بالحلم وبالأمل وبالانتماء، مع تصوير ساحر لموقع الجنوب وبريقه التراثي. إنه ليس مجرد فيلم للمتعة، بل تجربة تدفع المتلقي إلى التوقف والتفكير في ضوء داخلي يمكن أن يحفظ وجودنا ورؤيتنا للناس من حولنا.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى