صموئيل العشاي يفضح اكاذيب الموساد في كتابه الجديد: محاولة فاشلة لتبرير عجزة أمام المخابرات العامة المصرية في نصر أكتوبر

حين يضيق الأفق أمام المؤسسات المهزومة، وتتعثر قدرتها على مواجهة الحقيقة، لا تجد أمامها إلا أن تعيد صياغة رواية التاريخ بما يوافق صورتها المهزوزة أمام جمهورها. هذا بالضبط ما فعله جهاز الموساد الإسرائيلي عندما أصدر كتابه المثير للجدل بعنوان «ذات يوم، حين يكون الحديث مسموحاً».

كتاب حاول أن يرتدي ثوب الوثيقة التاريخية، لكنه في جوهره لم يكن سوى كتيب دعائي هزيل، كتبه جهاز فقد مصداقيته، ليبرر إخفاقه الذريع في حرب أكتوبر 1973. تلك الحرب التي باغتت إسرائيل بعملية عسكرية مصرية–سورية مشتركة أربكت حساباتها، وحطمت غرورها، ودفنت تحت رمال سيناء أسطورة طالما رددوها: «الجيش الذي لا يُقهر».

من يقرأ هذا الكتاب يدرك فوراً أن الهدف لم يكن التأريخ، بل تبرير العجز. إذ يحاول الموساد أن يقنع القارئ بأن لديه “المعلومة الذهبية”، وأنه سبق وحذّر قياداته في تل أبيب من أن الحرب على الأبواب، ولكن «تقصيراً» من الجيش هو الذي أدى إلى الكارثة. رواية مضطربة مليئة بالثغرات، أراد بها الموساد أن يغسل يديه من أعظم إخفاق أمني في تاريخه، وأن يلصق التهمة بغيره.

أولاً: التناقض في قلب الرواية الإسرائيلية

يزعم الكتاب أن الدكتور أشرف مروان، صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والمستشار المقرب من الرئيس أنور السادات، كان عميلاً مخلصاً لإسرائيل. ويضيف أنهم بفضله عرفوا موعد الحرب، بل وساعتها. لكن إذا كان هذا صحيحاً، فلماذا فوجئت إسرائيل على كل الجبهات في السادس من أكتوبر؟

لماذا لم يُستدعَ الاحتياط مبكراً كما تقتضي الإجراءات العسكرية؟ ولماذا انهارت حصون بارليف، التي أنفقوا عليها المليارات، خلال ساعات قليلة؟ وكيف فقد سلاحهم الجوي المتغطرس هيبته أمام صواريخ الدفاع الجوي المصري في أول مواجهة مباشرة؟

الحقيقة الواضحة كالشمس أن إسرائيل لم تكن تعلم. لقد تفاجأت بكل معنى الكلمة. والدليل أن وزير دفاعها موشيه ديان خرج مذهولاً يصف الموقف قائلاً: «إنها نهاية الدولة الثالثة». هل يصدر مثل هذا القول عن دولة كانت تعلم ساعة الصفر؟ أم عن دولة تلقت ضربة لم تتخيلها يوماً؟

ثانياً: ازدواجية إسرائيل في تقييم “الملاك”

الأدهى من ذلك أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية نفسها لا تتفق على رواية موحدة حول أشرف مروان:

  • فالمخابرات العسكرية «أمان» تصر على أنه كان عميلاً مزدوجاً، وأنه أغرقهم بمعلومات متناقضة أوقعتهم في حيرة.
  • بينما يصر الموساد على تصويره في هيئة “الملاك” الذي أهدى لهم أدق الأسرار.

أي جهاز مخابرات يحترم نفسه لا يعيش نصف قرن أسيراً لهذا الجدل العقيم. لكن الحقيقة أن الانقسام نفسه يفضح الأمر: مروان لم يكن عميلاً صافياً لهم، بل كان ورقة بارعة في يد القاهرة، أُدخلت في لعبة الخداع الاستراتيجي التي حيّرت إسرائيل وأربكتها حتى اللحظة الأخيرة.

ثالثاً: الخداع المصري.. ملحمة وطنية عبقرية

منذ عام 1971، وضعت القيادة المصرية خطة محكمة لخداع العدو. مناورات عسكرية متكررة على طول القناة، حتى يتعود الإسرائيليون عليها ويظنوها مجرد تدريبات روتينية. رسائل متعمدة عن تدهور الحالة الصحية للرئيس السادات، لإيصال انطباع بعدم قدرة القيادة على إدارة حرب. تحركات دبلوماسية وإعلامية تردد خطاب “السلام” في العلن، بينما كانت الاستعدادات الحقيقية تجري في صمت خلف الأبواب المغلقة.

ثم جاءت الخطوة الأكثر إبداعاً: تشغيل قنوات حساسة لنقل إشارات متناقضة، تُطمئن حيناً وتربك حيناً آخر. وكان أشرف مروان واحداً من تلك القنوات. لم يكن دوره أن يمنع الحرب كما حاول الكتاب أن يوحي، بل أن يدفع إسرائيل إلى الغرور والاستهانة حتى اللحظة التي انفجر فيها البركان.

هكذا تحولت أسطورة “الملاك” في الرواية الإسرائيلية إلى مجرد خيط صغير في شبكة الخداع المصرية.

رابعاً: أسئلة بلا إجابات تفضح الموساد

حتى الصحافة العبرية لم تستطع أن تبتلع هذه الحكاية. فكتابهم أثار أسئلة محرجة لم يجيبوا عنها:

  • إذا كان تسفي زمير، رئيس الموساد، قد التقى مروان في لندن مساء الخامس من أكتوبر، وأبلغه أن الحرب ستندلع غداً، فلماذا لم يتصل فوراً برئيسة الوزراء غولدا مائير أو بوزير الدفاع؟
  • لماذا عاد إلى تل أبيب وانتظر ساعات طويلة قبل أن يرفع تقريره؟
  • وإذا كان الموعد مؤكداً بنسبة 99% كما يدّعون، فلماذا بقيت الجبهة الإسرائيلية نائمة، ولماذا لم يُستدعَ الاحتياط إلا بعد أن كانت الدبابات المصرية قد عبرت القناة بالفعل؟

هذه الأسئلة تكشف أن ما يسمونه “الملاك” لم يقدم معلومة حقيقية، بل مجرد إشارات مبهمة أضافت إلى ارتباكهم، ولم تنقذهم من المفاجأة.

خامساً: شهادة الواقع

فلنترك الروايات جانباً، ولنسأل: ماذا قال الواقع على الأرض؟

في الساعة الثانية ظهراً من يوم السادس من أكتوبر 1973، عبرت أكثر من 200 طائرة مصرية سماء القناة في آن واحد، وقصفت أهدافاً دقيقة في عمق سيناء. وفي اللحظة نفسها، كان آلاف الجنود المصريين يندفعون في زوارق مطاطية، ليضعوا أقدامهم على الضفة الشرقية لأول مرة منذ نكسة 1967.

انهار خط بارليف الأسطوري في ساعات معدودة. ووجدت القيادة الإسرائيلية نفسها في حالة صدمة وجودية دفعت غولدا مائير للتفكير في استخدام السلاح النووي التكتيكي لولا تدخل واشنطن.

هل هذا مشهد دولة كانت تعرف موعد الحرب؟ أم أنه مشهد دولة أصابها الذهول أمام أعظم مفاجأة عسكرية في تاريخها؟

سادساً: موساد بلا نقد ولا شجاعة

أخطر ما يكشفه الكتاب أنه خالٍ تماماً من أي نقد ذاتي. مجرد صفحات من المديح لرئيس الموساد تسفي زمير، وتضخيم لإنجازات وهمية، وتبرير للإخفاقات.

جهاز مخابرات لا يجرؤ على الاعتراف بأخطائه محكوم عليه أن يعيش رهينة الفشل مهما كتب من كتب.

سابعاً: أشرف مروان في عيون المصريين

الموساد يحاول أن يسلب الرجل صفته الوطنية، ليصوره كخائن. لكن الحقيقة التي يعرفها المصريون أنه كان جزءاً من معركة أكبر اسمها الخداع الاستراتيجي.

رحل مروان في ظروف غامضة بلندن، وظلت وفاته مثار جدل. لكن المؤكد أن الرجل لم يكن يوماً “ملاكاً لإسرائيل”. بل كان أداة من أدوات مصر التي عرفت كيف تستخدمه في اللعبة الكبرى لإرباك العدو.

ثامناً: لماذا يصر الموساد على هذه الرواية؟

لأن إسرائيل لا تطيق الاعتراف بأنها هُزمت هزيمة كاملة في أكتوبر. لا تريد أن تعترف أن العرب، الذين طالما استهانت بهم، قد خططوا ونفذوا وأبدعوا وعبَروا القناة. لا تريد أن تواجه حقيقة أن أسطورة “التفوق المطلق” قد تحطمت.

فتلجأ إلى أساطير بديلة: مرة تقول إن الحرب كانت “انتصاراً بالنقاط لإسرائيل”، ومرة تزعم أن لديها عميلاً أنقذها من كارثة أكبر. كلها محاولات يائسة لإخفاء الحقيقة.

تاسعاً: دروس للأجيال

الرد على هذه المزاعم ليس مجرد دفاع عن مروان، بل هو دفاع عن الكرامة الوطنية كلها. حرب أكتوبر لم تكن مجرد معركة بالسلاح، بل كانت ملحمة عزيمة وإيمان وتخطيط. وكان الخداع الاستراتيجي جزءاً لا يتجزأ من النصر، تماماً كما كان العبور البطولي نفسه.

وعلى الأجيال الجديدة أن تعرف أن النصر لم يأتِ فقط بالدبابات والطائرات، بل بالعقل المصري الذي عرف كيف يوظف كل وسيلة – من المعلومة المضللة إلى المناورة الدبلوماسية – ليوقع العدو في شراك الغرور ثم يضربه الضربة القاضية.

عاشراً: كلمة أخيرة للموساد

اكتبوا ما شئتم من كتب. زيفوا ما شئتم من روايات. لكن الحقيقة لا تموت:

في السادس من أكتوبر 1973، عبر الجيش المصري قناة السويس، وحطم خط بارليف، وفرض على إسرائيل درساً تاريخياً لن تنساه. في تلك اللحظة، سقطت أساطير أجهزتكم الاستخبارية، وانهارت أسطورة “المعرفة المطلقة”.

التاريخ لا يكتبه المهزومون، بل يكتبه المنتصرون. وقد انتصرت مصر.

الرسآلة العامه

أشرف مروان لم يكن «الملاك» الذي تتفاخرون به، بل كان جزءاً من خطة مصرية بارعة، أحكمت خيوطها المخابرات العامة والحربية، لتجعل إسرائيل أسيرة الشك حتى الدقيقة الأخيرة. كتابكم الأخير ليس إلا شهادة إدانة جديدة ضدكم، لأنه يفضح عجزكم وتناقضاتكم.

أما مصر، فهي لا تحتاج إلى اختراع بطولات، فقد كتبت بدماء أبنائها وبعقول قادتها أعظم صفحات المجد على ضفتي القناة. لقد أثبتت أن الحق، حين يستند إلى الإيمان والتخطيط والجرأة، ينتصر مهما طال ليل الباطل.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى