صموئيل العشاي يكتب : كنت جنديا في سلاح الأبطال

في ذاكرتي صندوق لا أفتحه كثيرًا. أتركه مغلقًا إلا في اللحظات التي يثقل فيها صدري بالحياة، حين أشعر أن روحي بحاجة إلى تذكير بمعنى القوة، ومعنى المقاومة، ومعنى الانتماء إلى شيء أكبر من مجرد فرد. داخل ذلك الصندوق تختبئ ذكرياتي حين كنت جندياً في القوات المسلحة، مجندًا في المخابرات الحربية—التي تحمل اليوم اسم هيئة الاستخبارات.
أتذكر تلك الليالي الطويلة التي لا تغفو فيها العيون، ولا يعرف فيها القلب معنى الراحة. ليالٍ يشتعل فيها الصمت أكثر من أي ضجيج، وتتحول الأنفاس إلى سرٍّ ثقيل، وتصبح الدقيقة الواحدة أطول من ساعة. كنت أسمع دقات قلبي كأنها خطوات على أرض مجهولة، أحاول من خلالها الوصول إلى الحقيقة.
لم تكن تلك الأيام عادية. كانت أيام توترٍ وتركيزٍ ويقظةٍ لا تسمح حتى بترف السهو لثوانٍ. هناك تعلّمت أن الخطر الحقيقي لا يعلن عن نفسه، وأن الأمن لا يُصنع بالصوت المرتفع أو بالشعارات، بل بالصمت، بالصبر، وبالعمل الذي لا يراه أحد.
خدمتي في المخابرات لم تكن مجرد فترة تجنيد، بل كانت مدرسة حياة. تعلّمت فيها أن الوطن ليس ترابًا وحدودًا وعلمًا يرفرف في الاحتفالات. الوطن مسؤولية. الوطن خيط رفيع يفصل بين الأمان والفوضى، بين الحياة والمجهول.
هناك رأيت رجالًا يعملون في الظل ليعيش الناس في الضوء. رجال لا تُذكر أسماؤهم، ولا تُلتقط لهم صور، لكن أثرهم يُرى في كل لحظة استقرار تمر بها البلاد. هناك فهمت معنى القوة الهادئة، القوة التي لا تحتاج إلى استعراض. وتعلمت كيف تُخفى المخاوف خلف ثبات الملامح، وكيف تُقدَّم مصلحة الوطن قبل النوم، قبل الراحة… وقبل النفس.
أنا فخور. فخور لدرجة يعجز اللسان عن التعبير. هذا الفخر ليس شعورًا عابرًا، بل جذور تمتدّ في القلب والذاكرة والوعي. فخر ينهض بي إذا ضعفت، ويشد ظهري إذا انحنيت، ويذكرني دائمًا أنني كنت جزءًا من درع يحمي هذا الوطن—درع لا يُرى… لكنه يُشعر.
ذكرياتي هناك ليست صورًا عابرة؛ هي طاقة تشعل روحي كلما خفت نورها. كلما ضاقت الدنيا، أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام؛ فتحتضنني كدفء النار في البرد، وتمنحني الثبات كصخرة وسط العواصف، وتعيد إليّ يقينًا راسخًا: لا شيء قادر على كسري.
كانت تلك الأيام، وستظل، أيامًا عظيمة… محفورة في القلب… لا تنطفئ.