خيرية شعلان تكتب : حين امتلأ البيت بالفرح… وامتلأ القلب بك

لم أكن أعلم أن فكرة صغيرة عابرة، قد تتحول إلى حكاية كاملة تحمل في طياتها ضحكًا ودهشة وصوت كبار العائلة وهم يختلطون بأنغام “حسب الله”، وتظل بعد سنوات تتوهج في الذاكرة كأنها حدثت أمس. تلك كانت قصة يوم فرحنا… اليوم الذي اكتشفت فيه أن الفرح الحقيقي لا يُبنى بالتخطيط وحده، بل بما يهبه لنا الله من صدفة وناس وأصوات ووجوه صنعت مجد اللحظة.

بدأت الحكاية حين أقنعت نفسي أن يكون احتفالنا مقتصرًا على الأصدقاء والزملاء وبعض المقربين فقط—فرح صغير، بسيط، دافئ… “شباب في شباب”. كان خيالي يصور لي لحظات خفيفة، بلا ضوضاء ولا زحام العائلات ولا وصايا “اعملي كذا… وسيبك من كذا”. أردته احتفالًا يخصّنا نحن فقط، يشبه أحلامنا واندفاع شبابنا.

لكنني حين طرحت عليك الفكرة، نظرتَ لي بابتسامتك الساخرة التي أعرفها جيدًا، وسألتني:

“والعيلة؟ كبار السن؟ هنخَرِّطهم للوز؟”

ضحكتُ، وتظاهرتُ أنني أجادل، ثم دخلنا في نقاشات طويلة، كنت فيها متفهّمًا… لكنك لم تخف قلقك من رد فعل الأمهات، وأنت الأعرف بقوة حضورهما وتأثيرهما. قلت لي يومها:

“لو اتكلمتي مع ماما… ومع ماما رجائي… وأنا موافق.”

كان ذلك بمنزلة إعلان هزيمة غير معلن.

أول من تحدثت معها كانت أمّك. رحّبت بي كما تفعل دائمًا، ثم قالت جملة ظلت محفورة في قلبي:

“أنا أهم حاجة عندي أحضر فرح ابني الكبير… حتى لو محدّش تاني جه.”

ثم أضافت بابتسامة دافئة:

“ده اليوم اللي عايشة علشانه.”

كانت كلماتها كافية لأفهم أن حضورها ليس مجرد عادة اجتماعية، بل محطة عمر كاملة تنتظرها.

أما ماما… فكانت حكاية وحدها. حين أخبرتها بالفكرة، تغيّر وجهها في لحظة، كأنني اقترفت جرمًا. قالت لي:

“ازاي؟ أفرّح بنتي من غير أهلي؟ من غير اللي فرحوا معايا وعارفيني من يوم ما اتجوزت؟!”

كانت ترى في يوم فرحي فرصة لتعلن أن “المتمردة” التي ظلت ترفض الزواج قد اقتنعت أخيرًا، وأنها ستقف أمام كل معارفها وتبتسم بانتصار. شعرتُ وقتها أنني كنت أطلب منها أن تتنازل عن لحظة عمرها، وليس عن قائمة مدعوين.

اليوم، وأنا أكتب، أبتسم بصدق. كيف كنت أتخيل أن أبعد كبار العيلة—أمهات وآباء وأخوال وعمّات—عن يوم كهذا؟

لولا حكمتك يا رجائي، لظللت نادمة حتى الآن.

وحين جاء يوم الفرح، كان بيتنا في شبرا أشبه بساحة احتفال كبيرة تتسع لكل من أحبّنا وربّانا وعبر بنا الحياة. امتلأت الشقة، حتى صرنا نرسل واحدًا وراء الآخر إلى محل الفراشة لإحضار كراسٍ إضافية.

وكان المشهد كله يذكرني بفريد شوقي وهو يصرخ:

“مين دول يا بِت!”

لكن الفرق أن ماما كانت تعرف كل الوجوه… نفرًا نفرًا.

ثم جاءت اللحظة الأجمل… لحظة الغناء.

أحيا المراغنة وأصحابهم الحفلة بجوقة غنائية لا تُنسى. أصواتهم تملأ المكان، وأنت وسطهم… نجمًا حقيقيًا. أصر ضيائي وبهائي وإلهامي والشباب أن تكون قائد الجوقة.

غنينا: دقوا المزاهر… توب الفرح… يا نجف بنور… الله يا عريس… خدت الأمورة…

كانت الأغاني تأتي من الزمن الجميل، من سيد درويش حتى عبدالوهاب.

كنت أنظر إليك وأفكر:

“ما أكرمني الله حين جمعني بك.”

ثم حدثت تلك الصدفة التي تليق فقط بقصص الحكايات لا قصص الواقع:

فرقة حسب الله الشعبية مرّت في الشارع، ولاحظ أفرادها زينة الكهرباء وصوت الفرح، فصعدوا بآلاتهم النحاسية وربابهم ومزمارهم.

في اللحظة التي بدأوا فيها العزف، تغيّر البيت كله.

تحوّل إلى مهرجان شعبي صاخب، حقيقي، مليء بالرقص والغناء والأهازيج وكأن السماء أرسلت لنا طاقة من الفرح الخام. لم يعد هناك فارق بين شباب وكبار… الكل يغني، الكل يضحك، الكل يرقص بحماس منسي.

كانت تلك الليلة زمبلاطية أصيلة… زمبلاطية لا تتكرر.

بعد أسبوع، في بيتنا بمايو، أقمنا زمبلاطية أخرى—هذه المرة للشباب فقط—واجتمعنا بعيدًا عن تعليمات الكبار ورقابتهم. وكأننا كنا نوقّع اتفاقًا سريًا بيننا وبين الحياة:

أن نفرح مرتين… مرة لنا، ومرة للذين فرحوا بنا.

اليوم، حين أفتش في الذاكرة، لا أجد أغلى من تلك اللحظات.

لا أجد أصدق من تلك الوجوه التي زارتنا، ولا من تلك الأصوات التي غنّت لنا، ولا من تلك الليلة التي جمع الله فيها بين قلبين… وبيت كامل يغلي بالفرح.

وحشتني يا رجائي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى