آسر أحمد يكتب: تونس بين كل مسرح ومسرح “مسرح”

تتحول شوارع قرطاج خلال أسبوع كامل إلى مسرح مفتوح يفتن الصغير قبل الكبير على اقتناء تذكرة الحضور. الحضور هنا ليس لعروض محددة بل هو حضور لأي عرض من عروض المسرح، فالجميع لا يميز بين المسرحيات وإنما يشدهم التفاعل والإضاءة والديكور والحوارات والحبكة. المتابعون يدركون أن التمثيل والإخراج والنص هي عناصر متكاملة تقود التجربة وتبقي الجمهور في حالة تواصل فني مستمر.

المدينة النابضة بالفن قرطاج تمتلك تنوعًا مسرحيًا فريدًا؛ فبين كل مسرح وآخر يوجد مسرح، وتسكُن في كل حي منطقة مسرحية. هناك المسرح البلدي في الوسط، ومسرح الريو إلى يمينه، ومسرح الحمراء على يساره، إضافة إلى مسرح الفن الرابع ومسرح الأوبرا وقاعات الشبان والجهات ودور المسرحي وابن رشيق والمونديال وغيرها. هذا التنوع يتيح للجمهور فرص حضور عروض متعددة تناسب مختلف الأذواق والأعمار في مكان واحد، ويؤكد أن قرطاج مدينة تجمع بين الفن والحيز الثقافي في قلب العاصمة.

تنوع المسارح والعروض

الشغف بالفن في تونس يتكامل مع مهرجان أيام قرطاج المسرحية، حيث يرحب بمشاركة عروض من إفريقيا والعالم العربي والغرب ضمن مسابقاته الدولية. كما يستقبل عروض دولية وعروضًا ضمن مسابقة مسرح الحرية وكذلك عروض متنوّعة تخص مسرح الطفل، ما يعزز التبادل الفني طوال العام. هذه التنوعات تؤكد أن القراءات الفنية تتواصل وتتكامل بين ثقافات مختلفة.

وعلى مدار أسبوع كامل من التنقل بين المسارح تبرز فرص التلاقي بين مختلف الفئات العمرية والشرائح الاجتماعية في كل قاعة. فداخل كل مسرح يوجد الأطفال والكبار والسيدات والرجال والشباب، وهو تناغم يتيح لكل فئة عدداً من التذاكر يختلف باختلاف المكان والبرنامج. كما يلفت انتباهي صوت “الشششششش” الذي يخترق القاعة ليذكّر الحضور بمتابعة العرض وتفاعلهم معه. النتيجة أن الجمهور يعكس حب المسرح كقيمة مشتركة وتواصل فني حيوي.

ليس الهدف من أيام قرطاج المسرحية مجرد التنافس على الجوائز، بل تقديم جرعة فنية واسعة للجمهور. فالجمهور هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في التقييم، وهو ما يعكسه صدى حفل الختام وصيحات الحضور عند إعلان الجوائز. يعزز ذلك رؤية القائمين بأن الفن يفوز حين يلتقي الإبداع مع تفاعل الجمهور. هذا النظام يبرز كنه المهرجان كمنصة تواصل فني مفتوحة للجميع.

الدورة الـ٢٦ من مهرجان أيام قرطاج المسرحية قدمت تنوعًا كبيرًا عبر عروض من تونس ومصر والمغرب والأردن والعراق وإيران وليبيا والإمارات والسعودية ولبنان. كما ضمت عروض دولية من إيطاليا وفرنسا وإسبانيا ومكسيك وكولومبيا وبلجيكا وروسيا وكرواتيا، إضافة إلى عروض مسرح الحرية ومسرح الطفل. ويبقى المونتاج الفني والماستر كلاس والدورات التدريبية جزءاً من جدول الدورة لتوسيع الفاعلية والفرص أمام المهتمين.

كان أبرز ما لدي في هذه التجربة هو النقاشات الفنية الداعمة وتحليل كل عرض من حيث النص والإضاءة والرسائل الخفية. ولم تخلُ الرحلة من صداقات ثمينة مع أناس أحبّتهم مثل ناجيه الناجية وأسماء ومنال وأمين المحبوب وهاجر ونايرة ومايسة وكارما وحنان، وودودا التي علّمتني بعض العبارات التونسية، ولينا التي رافقتني في المغامرات. وجود هذه العلاقات جعل الرحلة تجربة عاطفية ومهنية لا تُنسى. هذه الروابط أضافت عمقاً شخصياً للرحلة وتذكّرني بأن الفن يجمع الناس قبل أن يجمع الأعمال.

ختام الدورة كان علامة نجاح كبيرة في إثراء التجربة الفنية والاستمرار في فتح آفاق جديدة للمشاركين. فقد مكنهم المهرجان من تجربة عروض مختلفة والدورات التدريبية التي تعزز مهاراتهم وتدفعهم لصناعة أعمال أقوى. وهكذا تستمر قرطاج في احتضان الفن وتمنح الجمهور والفنانين معاً مساحة للنمو والتبادل خلال الدورات القادمة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى