فوزي عبد المسيح يكتب : الوطن ليس شعارات

الوطن ليس مجرد أرض نعيش عليها، بل هو كيان يسكن في داخل كل إنسان. فكما نملك وطنًا عامًّا يجمعنا جميعًا تحت سمائه، فإن لكل فرد وطنًا خاصًّا داخله؛ هو قيمه وأخلاقه وضميره ومبادئه. وإن كانت نهضة الأوطان تبدأ بالمشروعات الكبرى والبناء العمراني والتنمية السياسية والاقتصادية، فإن الأساس الحقيقي لأي نهضة يبدأ من داخل الإنسان نفسه: من التعليم، ومن الصحة، ومن الأخلاق، ومن احترام القوانين.
العجيب أن المشكلة الحقيقية في كثير من الأحيان ليست في الوطن ذاته، ولكن في “الوطن الصغير” الذي يسكن داخل كل فرد. بعض مؤسسات الدولة اليوم تعاني ليس من نقص الإمكانات فقط، بل من ضعف الضمير وتراجع الأمانة وانتشار الرشوة والمحسوبية.
فالمواطن الذي يبحث عن حل سريع لبناء منزله فيدفع مالًا مقابل تجاوز القانون، لا يدرك أنه جزء من صناعة الفساد. والموظف الذي يستغل منصبه ليحصل على ما لا يستحق، أو ليستولي على أرض ليست من حقه، يظن أنه يربح نفسه بينما هو يخسر وطنه.
نرى مدرسًا لا يؤدي رسالته في الفصل من أجل دفع الطلاب إلى الدروس الخصوصية، وطبيبًا يهمل عمله في المستشفى حتى يجبر المريض على الذهاب لعيادته الخاصة، ومهندسًا يقدم مصلحته الخاصة على مصلحة المؤسسة التي ينتمي إليها، ومسؤولًا يتساهل في تجاوزات المواطنين مقابل منفعة شخصية، وفنانًا يذهب إلى الأعمال الهابطة طلبًا للربح السريع، ونائبًا يبحث عن مصالح انتخابية لا عن خدمة الوطن، ورجل مرور يقضي يومه بلا جدية، وغيرهم ممن ينسون أن وظيفتهم أمانة وليست مجرد مصدر دخل.
في الوقت الذي يبني فيه الرئيس الدولة عمرانيًا وسياسيًا من الداخل والخارج، هناك حاجة ماسة لبناء الإنسان ذاته؛ فالإنشاءات لا تكفي إن لم تُنشأ معها نفوس نظيفة، وضمائر يقظة، وقيم لا تهتز.
إننا بحاجة إلى صحوة ضمير تعيد للوطن هيبته من الداخل قبل الخارج، وتعيد للإنسان وطنه الداخلي الذي فقده.
لتتحقق النهضة لا نحتاج شعارات ولا خطابات ولا مجاملات، بل نحتاج نظامًا واضحًا، قانونًا مطبقًا، ومساواة في المواطنة، ورقابة ذكية تحمي حق الدولة وحق المواطن معًا.
نحتاج إلى تفعيل التكنولوجيا لفضح الغش والفساد، وإلى قوانين تُنفذ فورًا بالتصوير والإثبات والإجراءات الإلكترونية، بحيث لا يكون القرار في يد موظف واحد؛ بل منظومة كاملة تعمل برقابة ومحاسبة وسرعة ودقة.
لا بدّ أن يكون القانون مسموعًا ونافذًا في كل وزارة ومؤسسة، بحيث لا يُترك القرار لفرد، وحتى إن خان أحد الوطن وجد بجانبه آخر يحميه. هكذا تعمل الدول التي تحترم نفسها، وتبني حاضرها ومستقبلها.
كلنا شركاء في بناء الوطن
كلنا مسؤولون عن حماية هذا البيت الكبير
كلنا مطالبون بأن نكون جزءًا من الحل
لا جزءًا من المشكلة
فالوطن لا يُبنى بالكلام، بل بالعمل والتكاتف والضمير الحي، وباحترام القانون، وبأن يكون حب الوطن فعلًا لا شعارًا