صموئيل العشاي يكتب : أرهقنا ترامب بتصرفاته

أتابع التصريحات العجيبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي أعلن فيها بالأمس أنه قد يضرب إيران مجددًا، وكأن منطقتنا حقل تجارب مفتوح لنزوات القوة واستعراض العضلات. تصريحات لا تحمل فهمًا حقيقيًا لتعقيدات الشرق الأوسط، ولا تعكس إدراكًا لطبيعة التهديدات الوجودية التي تعيشها شعوبه ودوله منذ عقود.

مشكلة ترامب، ومن خلفه عدد غير قليل من مستشاري البيت الأبيض، أنهم يتعاملون مع منطقتنا بعقلية الخرائط العسكرية الباردة، لا بعين الواقع المركّب. لا يعرفون أن الشرق الأوسط ليس مجرد دول يمكن كسرها وإعادة تشكيلها، بل نسيج هش إذا انهارت جيوشه الوطنية تفككت معه الدولة، وملأت الفراغ جماعات العنف والتكفير. هؤلاء يسعون دائمًا لخلق حالة من “البعث الدائم” للصراع، حرب لا تنتهي، وتهديد لا يتوقف، وكأن الاستقرار عدو يجب محاربته.

ترامب يريد ضرب إيران، لكنه لا يعي — أو لا يريد أن يعي — طبيعة منطقة تتمدد فيها جماعات الإخوان والسلفية الجهادية، جماعات يمكن أن تتبدل أسماؤها وتتنوع مسمياتها، لكنها تتوحد في الفكر والسلاح والهدف: داعش، القاعدة، بوكو حرام، وأنصارها وشبيهاتها. هذه التنظيمات لا تعيش إلا على أنقاض الدول، ولا تحكم إلا فوق جثث الجيوش الوطنية.

والحقيقة التي يعرفها الجميع، ولم تعد سرًا، أن الولايات المتحدة لم تتصدَّ بجدية لهذه الجماعات، بل إن سياسات ترامب تحديدًا وفّرت لها الغطاء السياسي في لحظات مفصلية. رأينا كيف جرى التساهل مع صعود إرهابي وجماعته إلى مشهد الحكم في سوريا، برعاية مالية من محمد بن سلمان، ورعاية سياسية من أردوغان، وسط صمت دولي أمريكي مريب، بل وتشجيع غير مباشر باسم “تغيير الأنظمة” و“إعادة التوازن”.

ومع ذلك، يخرج ترامب اليوم ليهدد إيران قائلًا: “آمل ألا يحاولوا إعادة بناء قواتهم، لأنهم إن فعلوا فلن يكون أمامنا خيار سوى القضاء عليهم بسرعة”، ثم يضيف متفاخرًا بتكلفة إرسال قاذفات B2، وكأن المسألة استعراض ميزانية لا مصير شعوب. هذه اللغة لا تعكس حرصًا على الأمن، بل استخفافًا بالعواقب، وتجاهلًا لحقيقة أن أي ضربة جديدة ستفتح أبواب الفوضى على مصراعيها.

الخطر الحقيقي على منطقتنا ليس في وجود إيران، بقدر ما هو في مشروع تفكيك الجيوش الوطنية وتدمير الدول المركزية، تحت لافتات براقة عن الديمقراطية أو مكافحة النفوذ. الخطر الحقيقي هو تسليم المنطقة، عن عمد أو غباء سياسي، إلى جماعات جهادية لا تؤمن بدولة ولا وطن، بل بخلافة الدم والسيف. حينها لن تحكم داعش فقط، بل سيحكم منطق الفوضى، وسيدفع الجميع الثمن.

لقد أرهقنا ترامب بتصرفاته، ليس لأنه أول من يخطئ في فهم الشرق الأوسط، بل لأنه يصرّ على تكرار الأخطاء نفسها، ويهدد بإشعال حرائق جديدة في منطقة لم تخمد نيرانها بعد. وما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من القاذفات، بل قدرًا من العقل، واحترامًا لحق الشعوب في دولة وجيش وحياة لا تحكمها الرايات السوداء.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى