حارسة أحلامه ومفتاح لوحاته: سهام جميل في حوار حميم عن عالم الفنّان الراحل عبد الحليم رضوي

حوار: إبراهيم طه
في غاليري «ضي الزمالك» بالقاهرة، حيث تطل النوافذ على إحدى اعماله الجمالية التي تزين القاعة، جلست السيدة الفاضلة «سهام جميل» زوجة الفنان الراحل عبد الحليم رضوي.. الجدران تحكي قصة عمر؛ لوحات زيتية وإكريليك تتدفق منها الحياة والألوان، ومقتنيات من أسفاره حول العالم.
تحدثنا ليس عن الفنان العالمي صاحب الـ«3300» عمل والمائة معرض، بل عن «عبد الحليم» الإنسان، الذي عرفته رفيقة درب استثنائي.. وكان لنا الحوار التالي:
بدايةً، كيف كان اللقاء الأول مع الفنان عبد الحليم رضوي، وكيف دخل الفن كطرف ثالث في علاقتكما؟
«تبتسم بنظرة حالمة» كان اللقاء في أواخر الستينيات، بعد عودته من إيطاليا مباشرة.. كان يحمل معه ليس فقط شهاداته، بل حماساً كأنه يريد أن يغير العالم بفرشاته.. لم أقع في حب الفنان المشهور لاحقاً، بل وقعت في حب ذلك الرجل العصامي الذي يحمل طموحاً أكبر من إمكانيات ذلك الوقت.. كان الفن هو الهواء الذي نتنفسه، اللغة المشتركة. حتى أحاديثنا العادية كانت تتحول إلى نقاش عن شكل غيمة أو ظل، كان يرَى الجمال حيث لا يراه الآخرون.
طفولته كانت قاسية ويتيماً، تحمل مسؤولية إعالة الأسرة وهو طفل.. كيف انعكس هذا على شخصيته وكفاحه الفني لاحقاً؟
تلك الصعوبة صنعت منه إنساناً من حديد، لكن بقلب رهيف. كان يعمل بائع حلويات ومرشد حجاج.. كل هذا لم يقتل أحلامه، بل زاده إصراراً. كنت أرى ذلك الطفل المسؤول في عينيه كلما واجه تحدياً. كان يقول لي: «سهام».. اليتيم لا يخاف أن يفقد، لأنه يعرف كيف يبني من لا شيء.. هذا بالضبط ما فعله مع فنه. بنى مدرسة فنية من لا شيء، من فراغ ثقافي كان سائداً آنذاك.
حارسة المرسم
ما هو دورك الحقيقي في رحلته الفنية الطويلة؟ هل كنتِ مصدر إلهام، ناقدة، مديرة أعمال؟
«تضحك» كل ذلك وأكثر! كنت أحياناً «حارسة المرسم».. كان يعمل لساعات متواصلة، وينسى الأكل.. كنت أدخل بصمت وأضع الطعام وأخرج.. كنت أول ناقدة له أيضاً.. كان يطلب رأيي في لوحة قبل إكمالها، ليس لأنني خبيرة، بل لأنه كان يثق بحدسي كـ«متلقية».. في السفر، كنت ساعده الأيمن في تنظيم المعارض.. لكن أهم دور كان «حامي أحلامه».. في اللحظات التي كان يشك فيها بنفسه أو يواجه رفضاً، كنت أذكّره بنفسه ذلك الشاب خلال دراسته بالمرحلة الثانوية الذي فاز بجائزة الـ«500» ريال بلوحته «القربة»، وأخبره: «لقد قطعت كل هذه المسافة، لن تتوقف الآن».
لننتقل إلى داخل المرسم.. كيف كانت طقوسه أثناء العمل؟ هل كانت هناك عادات غريبة أو لحظات إبداع لا تنسى؟
كان المرسم عالمه المقدس. الرائحة.. لا أنسى رائحة الألوان الزيتية والإكريليك الممزوجة برائحة القهوة العربية التي كان يحتسيها بلا توقف. كان الصمت سيد الموقف، لكنه لم يكن صمتاً ميتاً. كان يسمع الموسيقى في رأسه. كنت أسمعه أحياناً وهو يهمهم بلحن وهو يرسم.
كان يعشق الخطوط الدائرية والدوامات، وكأنه يرسم حركة الحياة نفسها.. كانت هناك لحظات من التوتر الشديد، خاصة مع الجداريات والمجسمات الكبيرة.
أذكر مرة عمل على مجسم في حرّ جدة الشديد لأيام متواصلة، حتى أصيب بالإرهاق.. لكنه لم يستسلم. كانت لديه وساوس فنية جميلة؛ كان يعيد رسم نفس الخط عشرات المرات حتى يرضى عنه.
كان فناناً عالمياً بامتياز. كيف كانت ردود الفعل في تلك المعارض الدولية الأولى، خاصة أنه كان يحمل هوية وتراثاً عربياً وإسلامياً واضحاً؟
كان الأمر أشبه بالمعجزة. كنا نسافر إلى روما أو مدريد أو البرازيل، ويأتي الناس محملين بصورة نمطية عن الفن العربي. ثم يرون لوحاته التي تدمج الحرف العربي باللغة التشكيلية العالمية، فيصابون بالدهشة.
كانت فرحته الأكبر ليس بحصوله على أوسمة، بل بسماع أحد النقاد يقول: «هذا الفنان جلب لنا الشمس العربية بطريقة لم نعتدها».. في البرازيل، حين منحوه وسام الفارس، قال لي: «هذه ليست لي، هذا لبلدي ولتراثنا الذي أثبت أنه عالمي».
الفن ليس تمثيلاً للواقع فقط
معرضه الأول في جدة عام 1964 كان حدثاً تاريخياً كأول معرض تشكيلي في المملكة. كيف استقبل الناس الفن التشكيلي آنذاك؟
كانت مغامرة حقيقية! كان الناس ينظرون إلى اللوحات بتعجب وحيرة.. البعض يسأل: «ماذا تمثل هذه اللوحة؟» وكان عبد الحليم يشرح بصبر أن الفن ليس تمثيلاً للواقع فقط، بل هو شعور وفكرة.. ذلك المعرض كسر حاجز الخوف.. بعد أيام قليلة، بدأنا نرى شباباً يتوافدون ويسألون عن تقنيات الرسم. كان يشعر بسعادة غامرة لأنه فتح نافذة، ولو صغيرة، على عالم جديد. كان يقول: «زرعت بذرة، وسينمو الغرس».
معرضه الحالي في غاليري «ضي» بحي الزمالك بالقاهرة، والذي يحمل عنوان «مائيات رائد الحركة التشكيلية السعودية»، يقدم «50» عملاً تعكس احتفاءه بالتراث والهوية والطبيعة.. كيف تشعرين برؤية أعماله تحيا من جديد في عاصمة عربية كبرى مثل القاهرة، وهل هناك قصة ما وراء تركيز هذا المعرض على أعمال المائيات تحديداً؟
«عيناها تلمعان بفخر وشفافية».. هذا المعرض يلامس قلبي بشكل خاص.. القاهرة لم تكن مجرد محطة عابرة له، بل كانت منبراً ثقافياً أحبه وتفاعل مع فنانه ونقاده.. رؤية أعماله بالعاصمة المصرية، بعد رحيله، هي رسالة أن الفن الأصيل لا يموت.. إنه حوار يستمر بينه وبين العالم، وكأن روحه ما زالت تتنقل بين تلك اللوحات.
أما عن المائيات… «تتمهل مبتسمة» فهذا يعيدني إلى بداياته الأولى.. كان الماء، في رأيه، وسطاً صريحاً وشجاعاً؛ خطأ واحد وستخسر اللوحة.. كان يحب التحدي الذي يفرضه.. المعرض يركز على أعمال المائيات لأنه يظهر جانبه الشاعري والمرن، جانب «الاختزال» كما يسميه النقاد.. وهنا لوحات في هذا المعرض رسمها في أوقات هدوء عميقة، في فترات الصباح الباكر في جدة، حيث يكون الضوء ناعماً والجو صافياً.. كان يرى في تقنية «التبسيط» التي اتبعها في هذه الأعمال جرأة أكبر من اللوحات الكبيرة المعقدة؛ لأنها تختزل الفكرة إلى جوهرها النقي.. وبصراحة أن يقدم المعرض هذا الجانب الحميمي للجمهور المصري العاشق للفن، فهذا يخلق صلة روحية جديدة. أتخيله يبتسم الآن، راضياً أن حروفه ودوائره وألوانه البراقة ما زالت تجمع الناس حول الجمال، من جدة إلى القاهرة.
على الصعيد الشخصي، ما هي أقسى التحديات التي واجهتها العائلة بسبب انغماسه الكلي في الفن؟
«تتوقف قليلاً» الفنانون العظام يكونون أحياناً أسرى لعالمهم. كانت فترات العزلة أثناء العمل الشاق متعبة. السفر الدائم والميزانية التي كانت تنضب على شراء مواد فنية باهظة الثمن.. لكن التحدي الأقسى كان صحته في السنوات الأخيرة. مرض وهو لا يزال يحمل ألف فكرة في رأسه. كان يرسم وهو متعب، لأن الفن كان دواءه.. ومؤكد رحيله المفاجئ في 2006 ترك جرحاً لا يندمل، لكنني أنظر حولي وأرى إرثه في كل مكان: في المجسمات التي تزين جدة، في المتحف الخاص بأعماله، في كل لوحة تحمل روحه.
سر الـ«س»
عند التأمل في لوحات الفنان رضوي، يلاحظ المتلقي بشكل لافت تكرار ظهور حرف «السين» كعنصر تشكيلي، وهو الحرف الأول من اسمك، كما تظهر عبارات مثل «يا الله» أو «ذكر الله» منسوجة داخل العمل الفني. كيف تفسرين هذا التواجد الدائم لكِ وللذكر في عالمه البصري؟
«تلمس يدها قلادة تحمل حرف «سين» بتشكيل فني، وتتنهد برقة».. هذا السؤال يلامس الصميم… نعم، كنت حاضرة في فنه، ليس بصورتي، بل برمزي.
حرف «السين» لم يكن مجرد حرف بالنسبة له؛ كان هو «سهام» في شكلها التجريدي، كان علامة الامتنان والأمان. كان يقول لي: «أنتِ الأفق الثابت في كل لوحاتي المتغيرة».. فكان يدمج الحرف في تكوين العمل، أحياناً يظهر جلياً كـ«فن» خطي، وأحياناً يختفي في تكرار الدوائر والحركات اللولبية التي تشبه شكل الحرف. كان هذا هو طريقته في التوقيع على حياته قبل لوحاته.
أما عبارات الذكر «صوتها يهبط إلى همسة محبة» فذلك كان جنته السرية. عبد الحليم كان رجلاً صوفياً في علاقته مع الجمال. كان يعتقد أن الفن الحقيقي هو نوع من العبادة، وأن الإبداع هو أثر من آثار ذكر الخالق. لم يكن يكتب «يا الله» لتزيين اللوحة، بل كان يكتبها وهو في حال من الشكر والتسبيح خلال العمل. تلك العبارات كانت أنفاسه على القماش.. كانت طريقته في ربط هويته الإسلامية بفنه العالمي، بدون وعظ أو خطابة، بل كحالة وجدانية طبيعية.. كأن العمل الفني يصبح محراباً للجمال.
كان يرى أن الحرف العربي ليس مجرد أداة اتصال، بل هو «روح مرئية».. وحين يدمجه بذكر الله، فإنه يخلق طبقات من الدلالة: جمال بصري، وجذر هوياتي، واتصال روحي.. أحياناً كنت أدخل عليه في المرسم وأجده يردد «يا الله» بهمسة وهو يرسم، وكأنه يستدعي الإلهام من مصدره. لذلك، عندما ترون هذه العناصر في لوحاته، اعلموا أنكم لا تنظرون إلى رسم فحسب، بل إلى صفحة من مذكرات روحه، حيث الحب الأرضي والحب الإلهي يلتقيان على سُطُع الألوان.
جسر بين الأصالة والمعاصرة
ما هو الإرث الأكبر الذي تركه عبد الحليم رضوي برأيك، وكيف تودين أن يتذكره الناس؟
إرثه هو «الجسر».. جسر بين الأصالة والمعاصرة، بين مكة وروما، بين الحرف العربي وأحدث التقنيات.. لم ينسَ يوماً أنه نشأ في أجياد بمكة، ولم يتنازل يوماً عن انتمائه، لكنه لم يغلق نافذته على العالم.
أريد أن يتذكره الناس كـ«الفارس» الذي دافع عن هويته بفنه، وكـ«المعلم» الذي مهد الطريق لكل الفنانين الذين جاؤوا بعده… لم يكن يريد مجرد رسم لوحات جميلة؛ كان يريد بناء وعي جمالي لأمة.
كلمة أخيرة أو ذكرى عزيزة تودين مشاركتها معنا؟
«تنظر إلى لوحة كبيرة على الحائط تصور خيولاً جامحة» هذه اللوحة… «الخيول».. كان يعمل عليها أثناء مرضه.. قال لي يوماً: «الخيل قوة وأصالة، وهي كالفن، تحمل الروح نحو الحرية».. وأتمنى أن يحمل فنه روح كل من يراه نحو الحرية والجمال.. فالفن عنده حسبما يقول ليس ترفاً، بل هو غذاء للروح مثل الماء والهواء.. هذه كانت رسالته.