صموئيل العشاي يكتب: رسائل فضيلة المفتي بعيون قبطي

في مشهد يفيض بالدلالات الوطنية والروحية، جاءت رسائل فضيلة مفتي الديار المصرية، الشيخ نظير عياد، خلال كلمته التي ألقاها بمناسبة استطلاع هلال شهر شوال، لتؤكد أنه ليس مجرد رجل دين يؤدي دوره التقليدي، بل هو رمز للحكمة والتقارب بين أبناء الوطن الواحد، وصوتٌ يعزز قيم العيش المشترك والمحبة بين المصريين.
كثيرون يرون أن وظيفة المفتي تقتصر على إصدار الفتاوى الشرعية والإجابة عن المسائل الدينية، لكن المشهد الذي رسمته كلماته الأخيرة يكشف عن دور أعمق وأكثر تأثيرًا، يتجاوز الفتاوى إلى بناء جسور الحوار والتفاهم بين أبناء المجتمع. فحين يتحدث المفتي عن معاني الاحتفال بعيد الفطر بوصفه عيدًا لكل المصريين، أو حين يحمل على مكتبه خريطة لفلسطين تعبر عن وجدان الأمة، أو حين يرفع دعاءً صادقًا لشيخ الأزهر الذي تربطه به أواصر الأخوة والمحبة، فإنه يرسم صورة جديدة لرجال الدين، تجعلهم أقرب إلى وجدان الناس، وأقدر على تحقيق رسالتهم الروحية والإنسانية.
خريطة فلسطين على مكتبه.. رسالة صامتة لكنها قوية
في قلب مكتب المفتي، وبين الكتب والمجلدات التي تملأ أركانه، تبرز خريطة مجسمة لفلسطين، وكأنها شاهد صامت لكنه بالغ الدلالة على موقفه الراسخ من القضية الفلسطينية. هذه الخريطة ليست مجرد قطعة ديكور أو مجسم جمالي، بل هي شهادة على التزام المفتي بموقف ديني ووطني يعكس رؤية الأزهر العريقة تجاه القضية الفلسطينية، بوصفها ليست قضية سياسية فحسب، بل قضية عدالة وحقوق لا يمكن التفريط فيها.
إن وجود هذه الخريطة في مكتب المفتي يحمل رسالة واضحة بأن فلسطين لم تكن يومًا قضية تخص المسلمين وحدهم، بل هي قضية وجدانية تسكن قلوب المصريين جميعًا، مسلمين ومسيحيين، الذين ظلوا عبر التاريخ داعمين للحقوق الفلسطينية ومؤمنين بعدالتها. فمصر، التي قدمت دماء أبنائها في سبيل القضية الفلسطينية، تظل على عهدها، تحمل فلسطين في قلبها، وترى أن نصرتها ليست واجبًا سياسيًا فقط، بل هي التزام أخلاقي وديني يعكس هوية الأمة ووجدانها المشترك.
عيد الفطر لكل المصريين.. وطن واحد وفرحة واحدة
في خطوة تعكس رؤية عميقة لمعنى الأعياد في المجتمع المصري، أكد فضيلة المفتي أن عيد الفطر ليس مناسبة خاصة بالمسلمين وحدهم، بل هو عيد لكل المصريين، وهي عبارة تحمل في طياتها معاني أعمق من مجرد التهنئة أو المجاملة، فهي تعبير عن روح مصر الحقيقية، التي لم تعرف يومًا الفواصل بين أبنائها، بل جمعتهم على مدار تاريخها الطويل في نسيج واحد من المحبة والتآخي.
إن الأعياد في مصر، سواء كانت إسلامية أو مسيحية، لطالما كانت مناسبات وطنية يتشارك فيها الجميع، حيث يهنئ الأقباط إخوانهم المسلمين في عيد الفطر والأضحى، تمامًا كما يشارك المسلمون إخوانهم الأقباط في أعياد الميلاد والقيامة. هذه الروح ليست وليدة اللحظة، بل هي جزء من تركيبة المجتمع المصري الذي عرف دائمًا كيف يحوّل المناسبات الدينية إلى لحظات فرح واحتفال وطني، تعكس مبدأ المواطنة الحقيقية التي لا تفرّق بين أبناء الوطن الواحد، بل تجمعهم على الحب والمودة.
دعاء المفتي لشيخ الأزهر.. رسالة محبة وتقدير
في ختام كلمته، لم ينسَ فضيلة المفتي أن يرفع الدعاء بالشفاء لشيخ الأزهر، الإمام الدكتور أحمد الطيب، بعد الوعكة الصحية التي ألمت به، وهو مشهد يجسد أرقى معاني الاحترام والتقدير المتبادل بين رموز المؤسسات الدينية في مصر.
لم يكن هذا الدعاء مجرد بروتوكول أو مجاملة، بل كان تعبيرًا صادقًا عن التلاحم الحقيقي بين الأزهر ودار الإفتاء، وعن الروابط الروحية والإنسانية التي تجمع علماء الدين، بعيدًا عن الألقاب والمناصب. والأجمل من ذلك، أن هذا المشهد لم يقتصر على المسلمين وحدهم، بل تجاوزه إلى الأقباط الذين بادروا أيضًا بالدعاء لشيخ الأزهر، تقديرًا لدوره الكبير في تعزيز قيم التسامح والتعايش، وإيمانه العميق بأن مصر وطنٌ يتسع للجميع.
ليس غريبًا إذن أن يُلقب شيخ الأزهر بـ”حبيب الأقباط”، فهو لقب لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة سنوات طويلة من الخطاب المعتدل والمواقف الحكيمة التي عززت ثقافة المحبة والتآخي، وجعلت من الأزهر منارة تضيء درب السلام والتعايش في مصر والعالم الإسلامي.
المفتي في الكاتدرائية.. لحظة تاريخية من التقارب
في خطوة غير مسبوقة، احتفت الكاتدرائية المرقسية بالعباسية بفضيلة المفتي بمناسبة توليه منصبه، حيث ألقى خطبة مؤثرة داخل الكاتدرائية، في مشهد يعكس أقصى درجات التقارب بين المؤسستين الدينيتين الأكبر في مصر.
لم يكن الاحتفال مجرد مناسبة رسمية أو إجراء بروتوكولي، بل كان تعبيرًا عن تقدير الكنيسة لشخص المفتي، بوصفه رمزًا يحظى بالاحترام من جميع المصريين، بغض النظر عن دياناتهم. وقد جاءت كلماته في هذه المناسبة لتعزز قيم الأخوة والتعايش، وترسّخ مفهوم الوطن الواحد الذي يجمع أبناءه على المحبة والمودة.
لم تمر هذه الخطبة مرور الكرام، إذ بادرت الكنيسة إلى توثيقها في كتاب يُوزع مجانًا، ليكون شاهدًا على هذه اللحظة الفريدة، ويمنح الأجيال القادمة فرصة الاطلاع على كلمات المفتي التي عززت مفاهيم الوحدة والتآخي.
“نظير”.. اسم محفور في قلوب الأقباط
من المصادفات الجميلة التي لاقت استحسان الأقباط، أن اسم فضيلة المفتي هو “نظير”، وهو الاسم الذي كان يحمله البابا شنودة الثالث قبل رهبنته (نظير جيد روفائيل). هذه المصادفة البسيطة أضافت بُعدًا عاطفيًا جعل كثيرين يشعرون بقرب وجداني من المفتي، وكأن اسمه ذاته يحمل رسالة محبة تمتد عبر الزمن، تربط بين الأزهر والكنيسة في إطار من الاحترام المتبادل والتاريخ المشترك.
نحو مستقبل أكثر ترابطًا.. رسالة المفتي في ميزان الوطنية
ما قدمه فضيلة المفتي في رسائله الأخيرة لم يكن مجرد كلمات عابرة، بل كان تأكيدًا عمليًا على أن رجال الدين الحقيقيين هم أولئك الذين يبنون جسور المحبة، لا الحواجز، ويعززون القيم الوطنية الجامعة التي تحتضن جميع أبناء الوطن تحت مظلة واحدة.
إن مصر، بتاريخها الطويل وتقاليدها الراسخة، تظل نموذجًا فريدًا للتعايش والتلاحم، حيث لا مكان للفرقة أو التمييز، وحيث يظل الأزهر والكنيسة جناحين لوطن واحد، يحلق دائمًا في سماء المحبة والسلام. في زمن يحتاج فيه العالم إلى مزيد من التفاهم، تأتي هذه الرسائل لتؤكد أن مصر قادرة دائمًا على تقديم نموذج فريد للتعايش والتآخي، يُحتذى به في العالم أجمع.