رحيل الأنبا باخوميوس.. دموع البابا وحزن الأقباط على شيخ المطارنة

بقلم صموئيل العشاي :
برحيل الأنبا باخوميوس، مطران البحيرة ومطروح وشمال أفريقيا وشيخ المطارنة، فقدت الكنيسة أحد أعمدتها الراسخة، وأحد أعمق الأصوات حكمةً داخل المجمع المقدس. لم يكن مجرد مطرانٍ عظيم، بل كان أبًا حقيقيًا، يفيض قلبه محبةً وتواضعًا، لم يتعالَ يومًا على أحد، ولم يسعَ وراء مجد شخصي، بل كان الحب شعاره، والبذل أسلوب حياته، والتواضع ميزته الأبدية.
حين تساقطت دموع قداسة البابا تواضروس الثاني في وداع معلمه وأستاذه، لم تكن دموعه وحده، بل دموع كل قبطي عرف الأنبا باخوميوس، خَبِرَ حكمته، وارتوى من محبته، ووجد في نصيحته ملاذًا وسط العواصف. هذه الدموع ليست ضعفًا، بل تعبيرٌ عن خسارة فادحة لرجل كان بمثابة الصوت العاقل داخل الكنيسة، وراعيًا يحمل مشاعر الأبوة الحقيقية لكل من عرفه.
معلم الحكمة وصانع التوازنات
عُرف الأنبا باخوميوس بأنه رجل التوازنات الحكيمة، والركيزة الصلبة التي كانت تمسك بزمام الأمور في أصعب الأوقات. وحينما واجهت الكنيسة أزمة الفراغ البابوي بعد رحيل البابا شنودة الثالث، تولى قيادة الكنيسة بحكمة الأب وحزم الراعي، واستطاع أن يُدير مرحلة انتقالية معقدة بحنكة نادرة، حافظ خلالها على استقرار الكنيسة، رغم التحديات السياسية العاصفة التي شهدتها مصر آنذاك.
ولا أنسى أنني، خلال فترة رئاسته المؤقتة للكنيسة، كنت قد التقيته داخل المقر البابوي وحدثته بصراحة عن قلقي من مستقبل البلاد، حيث أخبرته أنني كنت قد أسست حملة تأييد اللواء عمر سليمان لرئاسة الجمهورية، منعًا لوصول الإخوان إلى حكم مصر. ثم أضفتُ بانفعال: “اليوم أرى الدعوات تنهال لحضور محمد مرسي قداس تنصيب البابا الجديد، وهذا الأمر أرفضه بشدة!”
ابتسم سيدنا كعادته بهدوء، ثم نظر إليَّ وقال كلمته العميقة التي تلخص إيمانه وثقته المطلقة بالله: “لا تقلق، من يحرس الكنيسة ومصر هو الله.”
راعي المحبة الحقيقية
لم يكن الأنبا باخوميوس مجرد قائد كنسي، بل كان أبًا روحيًا بمعنى الكلمة، يمتلئ قلبه محبةً، ويفيض صدره اتساعًا للجميع. لم يعرف التفرقة بين كاهن وعلماني، ولا بين كبير وصغير، بل كان دائم الاحتواء لكل من لجأ إليه، يسمع بصبر، ويرد بحكمة، ويحتوي الجميع بقلب اتسع لكل أبناء الكنيسة.
لقد أحبَّ الجميع بصدق، ولم يسعَ يومًا للظهور او التفرد بالسلطة بل كان الراعي الذي يعيش وسط رعيته، يشعر بآلامهم، ويفرح لأفراحهم، ويُقدّم لهم المشورة الصادقة والنقية.
دموع البابا.. ودموع الكنيسة كلها
اليوم، حين نرى دموع قداسة البابا تواضروس، ندرك أن الكنيسة كلها تبكي، فالبابا لا يبكي شخصًا عاديًا، بل يبكي أستاذه ومعلمه، ويبكي رجلًا شكَّل وجدان شعب الكنيسة، ويبكي أحد أكثر الأصوات الحكيمة التي كانت تحفظ التوازن داخل المجمع المقدس.
رحل الأنبا باخوميوس، لكنه لم يغب، فقد بقي فكره النقي، وحكمته العميقة، وروحه المملوءة محبة حيّة في شخص قداسة البابا تواضروس الثاني، الذي حمل منه مشعل الحكمة والاتزان، وورث عنه المحبة الصادقة لكل إنسان. بقي إرثه الروحي وتعاليمه الراسخة نبراسًا للكنيسة، وبقيت روح الأبوة التي تميز بها حاضرةً في وجدان كل من عرفه.
وإن كانت الكنيسة قد فقدت أحد أعمدتها، فإنها وجدت في قداسة البابا تواضروس الثاني امتدادًا لهذه الروح، ودعامةً جديدةً تحمل الحكمة ذاتها والمحبة ذاتها. سوف تظل قلوبنا جميعًا سندًا ومحبةً ودعماً لقداسته، في مسيرته التي يواصل فيها خدمة الكنيسة وشعبها، بروح الأنبا باخوميوس، وحكمته الخالدة.